قصة للفتيان: "اللوكر"
المسحور
دقق اللغة: د. محمد نور الدين المنجد
زينب طالبة في السنة
السابعة، تدرس في إحدى مدارس مسقط. التحقت بها حديثا، وجاءتها من مدرسة أخرى في
بلد آخر غير عمان. أعجبت زينب بمدرستها الجديدة، وأحبت ساحاتها الفسيحة، ومساحاتها
الخضراء وأشجارها الوارفة، ومرافقها الرياضية.
ولكن أهم الأسباب التي
حببت زينب في مدرستها الجديدة أسلوب الحياة فيها. أولها: مطعم المدرسة والأكل فيه
مع صديقاتها وإحساسها أنها كبرت وأمست حرة.
السبب الثاني الذي تحب
زينب من أجله مدرستها، اللباس الموحد. حيث باتت تذهب إلى المدرسة بفستان أزرق داكن
وقميص وجوارب بيضاء وحذاء أسود.
السبب المهم الثالث
الذي حبب إلى زينب مدرستها، امتلاكها فيها بطاقة شرائية تحمل صورتها وتحتوي مئة
ريال عماني. وتقوم زينب بصرفها، متى شاءت، في بعض الأدوات المدرسية والملابس التي
عليها علامة مدرستها.
أما السبب الرابع لتعلق
زينب بمدرستها وهو الأهم على الإطلاق، "اللوكر" أو الصندوق، وهي تلك
الخزانة الصغيرة التي يستعملها الطلبة لحفظ الأدوات والأشياء المتعلقة بالدراسة.
وترى زينب في هذا الصندوق المدرسي بابا مشرعا على عوالم الحرية والثقة بالنفس.
وللأسف، فقد تأخر توزيع
الصناديق في المدرسة. ولأن مغالق تلك الصناديق تعمل بالأرقام، فقد أمضت زينب زمن
انتظارها تفكر في الرقم أو الأعداد التي سوف تكوِّن منها مفتاح قفل صندوقها.
وانتهت بعد بحث طويل إلى سؤال عائلتها عن الأعداد التي يحبونها. ولأنها تغار كثيرا
من شقيقها، فقد تجاهلت رقمه وأخذت برقمي والديها.
كان كل رقم منهما مكونا
من عددين، يحب الوالد الرقم 33، واختارت الوالدة الرقم 44، بينما اختارت زينب
العدد الخامس. ولم تفصح عن عددها لأحد بما في ذلك أمها، وبقيت على ذلك الكتمان
طوال الأيام الأولى من انتظارها. عندما عيل صبرها، كشفت عن سر عددها لأمها فقط.
والعدد هو 9، ومن فرط حب زينب لهذا العدد فإن تسعة على عشرة في الامتحان يسعدها
أكثر من عشرة على عشرة.
يوم الحصول على
الصناديق كان يوما مشهودا عند زينب، فقد بدأته باكرا جدا، حيث نهضت في الخامسة
فجرا، صلت وذاكرت بعض دروسها وساعدت أمها في إعداد فطور الصباح.
من سوء الحظ أن مساء
ذلك اليوم لم يكن كصباحه، إذ عادت زينب إلى البيت بغير الوجه الصبيح الذي غادرت
به. ورغم أن أول ما تفوهت به لدى أمها هو رقم صندوقها الجديد، إلا أنها لفظته
بمرارة شديدة.
بعد السؤال، علمت الأم
أن زميلات زينب في الفصل أفسدن عليها فرحتها، قلن لها إن رقم صندوقها الواحد
والعشرين هو رقم الصندوق المسحور في المدرسة، وإن من يحصل عليه يرى أشياء غير
سارة، فصاحبته تفتقد فيه أشياءها، ويمكن أن تجد فيه فأرا ميتا، كما يمكن أن يحتله
جيش من الخنافس، أو ينقلب بين عشية وضحاها إلى بيت عنكبوت عملاق، كما ليس مستبعدا
أن يفتح يوما فتخرج منه أفعى، نعم أفعى، وقد حدث ذلك مع أحد الذين تورطوا في ذلك
الصندوق سيِّئ الذكر.
بعد سماعها هذا، أحست
زينب بالخوف، ولكن بالكره أيضا، ليس لصندوقها وحسب، وإنما لصديقاتها ولمدرستها
التي أحبتها كثيرا. لقد أمست ترى الأفاعي، والفئران الميتة، وبيوت العنكبوت، في كل
مكان. وبعد أن كانت مدرستها الجديدة سبب فرحتها، تحولت فجأة إلى سبب تعاستها.
طلبت زينب من إحدى
معلماتها، وهي أطيبهن وأقربهن إلى نفسها، أن تساعدها في تغيير صندوقها، وطلبت من
أمها أن تتدخل لدى إدارة المدرسة كي يعطوها صندوقا جديدا. أمها، ولأنها مشغولة جدا
في عملها، وعدتها بأن تتصل بالمدرسة في أقرب مناسبة، أما المعلمة فوعدتها بعد
إلحاحها عليها أن تسعى من أجل تغيير صندوقها في بحر أسبوع واحد. واشترطت المعلمة
على زينب أن تقوم، أثناء تلك الفترة، باستعمال الصندوق 21.
فكرت زينب مليا فوجدت
أن انتظار أسبوع واحد إضافي ليس كثيرا، فما عليها إلا الصبر قليلا. وهكذا أشرق
الأمل في وجهها من جديد وعادت أدراجها، دون أن تشعر، إلى حبها لمدرستها وولعها
بامتيازاتها فيها.
اليوم الذي تسلمت فيه
زينب المغلاق كان تاليا ليوم توزيع الصناديق، وكان غير حزين، حيث برمجت فيه مفتاح
الصندوق المتكون من عددها وأعداد والديها. ومن فرط فرحتها قامت بتجربة المغلاق على
الصندوق 21.
كانت الشمس غالبة على
المكان، طاردة لكل ما يمكن أن يكون سببا للخوف أو الرهبة، وكان معدن الصندوق لامعا
تحت ضربات الشمس الجنوبية، فبدا مثل مرآة عاكسة للضوء. وقفت زينب تجاهه وانتهزت
فرصة مرور بعض الأساتذة على مقربة منها وفتحته بسرعة ونظرت داخله فكان فارغا
ونظيفا. عندما أدنت منه رأسها تتفحصه في رهبة، دوت صيحة قوية ملأتها رعبا، وأتبعت
الصيحة قهقهة جماعية، كن زميلاتها الثلاثة يسخرن منها.
تحت تأثير الخوف صرخت
زينب فيهن. وفي ما يشبه التحدي لهن، وضعت محفظتها دون تردد داخل الصندوق وأغلقته
وانصرفت.
بعد تناولها غداءها،
قفلت زينب راجعة إلى صندوقها تطمئن على أشيائها وتستعيدها إن وجدتها، كانت مرعوبة
بفكرة فقدها.
وكان في انتظار زينب
داخل صندوقها مفاجأة كبيرة، فحين فتحت دفة الصندوق تسمرت في مكانها وفغرت فاها
وجمدت عيناها، كانت رائحة الصندوق قد تغيرت، ولكنها لم تتغير لتصبح رائحة فأر
مذبوح أو أمعاء خروف معفنة، وإنما كانت الرائحة طيبة جدا. وليس هذا وحسب، وإنما
وجدت أن أشياءها التي كانت في محفظتها قد أخرجت منها ورتبت في الجزء الأعلى من
الصندوق بينما وضعت المحفظة فارغة في الجزء الأدنى منه.
كان إحساس زينب تجاه
هذا الأمر الغريب مبهما، لقد كان شبيها بشعور غمرها أول مرة رأت فيها ساحرا على
المسرح، كان يخرج من علبة صغيرة لم يكن فيها شيء، حمائم بيضاء عديدة. لقد اقشعر
بدن زينب وأحست بشيء من الرهبة، وذلك رغم استمتاعها بالترتيب وطيب الرائحة الذين
وجدت عليهما صندوقها.
بحركة سريعة، وغير
واعية تقريبا، اختطفت زينب كراسها وكتاب الرياضيات، فهي المادة التي لم تنتهي بعد
منها ذلك اليوم، وأغلقت الصندوق. بعد أن مشت قليلا تذكرت أنها لم تأخذ معها علبة
الأقلام، وبسبب خوفها لم تشأ العودة إلى الصندوق، ومرت بالقائمة على المكتبة، وهي
سيدة تحب زينب لشغفها بالقراءة، واستعارت منها قلما.
مرت حصة الرياضيات
غريبة على زينب، فقد أصبحت ممن اطلع على فعل السحر ورآه مرأى العين، وهي التي كانت
تسترهبه بمجرد السماع عنه. وما أن انتهى الدرس، حتى رجعت إلى صندوقها لترى ما جرى
له، كانت تتساءل في نفسها: "هل يا ترى بقيت رائحة الصندوق طيبة أم تحولت إلى
نقيضها؟ وأشيائي، هل ما زالت هناك أم أن أمورا سيئة قد حصلت؟"
عالجت أصابع زينب
المرتعشة مغلاق الصندوق ففتحته، نظرت عن يمينها وشمالها، استدارت إلى ورائها تتفقد
إن كان أحد يراقبها من بعيد، ثم أخذت نفسا عميقا وجذبت دفة الصندوق، كان عبق
الرائحة الفواحة لايزال هناك، وكانت أشياؤها في مكانها. الجديد هو ظهور كأس جميل
وضعت فيه علبة معجون أسنان وفرشاة مغطاة برأس (أرنوبة) وردية. من فرط المفاجأة
تراجعت زينب إلى الوراء ونظرت من حولها، كانت على شفتيها ابتسامة مبهمة وكانت تقول
لنفسها: "ولكن ما الذي يجري في هذا "اللوكر" الغريب؟! لا بد أن
أخبر أمي..".
آخر اليوم وهي تنتظر
أباها عند موقف السيارات مغمورة بأفكارها وما حدث لها مع صندوقها الجديد، أقبلت
زميلاتها الثلاثة فلاحظن حيرتها وخوفها. سألت إحداهن في أسلوب تهكمي: "كيف
وجدتي "اللوكر"؟ هل ظهرت الفأرة المذبوحة؟ أم وجدتِ فيه لسان حمار؟ أو
ربما طاقم أسنان عجوز؟ إن لم يحدث بعد شيء فإن غدًا لناظره قريب...".
قهقهت البنات الثلاثة
أمام دهشة زينب التي قالت وعيناها زائغتان: "أحب أن أسألكن..."، توقفت
الفتيات عن الضحك ونظرن ماذا تقول لهن، قالت: "هل حدث لأحد الطلبة ممن
امتلكوا "اللوكر" في الماضي أن رأوا فيه أشياء حسنة وليس سيئة؟"
تطلعت الفتيات إلى زينب
ثم إلى بعضهن متعجبات. إحداهن، وتدعى "نانسي"، ردت قائلة: "لا، حسب
علمي...". كانت زينب تنتظر رد "ليلى" أشقى الصديقات الثلاثة
وأكثرهن حديثا في أمور الصندوق 21، قالت "ليلى" كالمعقبة على كلام "نانسي":
"إحدى الفتيات في السنة الفائتة ممن امتلكن "اللوكر" 21 قالت إنها
وجدت فيه وردة وعندما قربتها من أنفها لتشمها استحالت في يدها ضفدعة..."،
صاحت "نانسي" ساخرة: "أوه، تبا، أنا لا أحتمل الضفادع"، قالت
"ليلى": "ومن يحتملها؟ خاصة حين تجدها في يدك وعند أنفك؟".
كان واضحا أن كلام
الفتاتين أزعج زينب كثيرا. من حسن حظها أن والدها وصل في تلك اللحظة فاستأذنت من
رفيقاتها سريعا وانصرفت.
في السيارة كان أول
سؤال زينب لأبيها حول السحر، قالت وهي تقلب عينيها بين الطريق أمامها ووجه أبيها
في فعل غير إرادي: "هل تؤمن بالسحر؟"
قال الأب: تتحدثين عن
"اللوكر"؟ إنهن صديقاتك يحاولن السخرية بك..".
قالت زينب مستفزة
وغاضبة: "أنا أسألك هل تؤمن بالسحر؟... أجبني من فضلك".
قال الأب: "السحر
الذي أفضل الحديث عنه هو سحر الجمال والعلم والمحبة والإيمان...".
زينب: "ما معنى
هذا الكلام؟"
الأب: "معناه أنه
إذا أحسست بشيء أنه سحر فابحثي جيدا في أصله وسوف تجدينه أحد ما ذكرت لك: الجمال
أو العلم أو المحبة أو الإيمان..."
لاذت "زينب"
بالصمت وتعلقت عيناها بالطريق أمامها إلى أن وصلت إلى البيت، أثناء ذلك كان الأب
يسترق إليها النظر من حين لآخر مستغربا صمتها.
في البيت لم تحدث
"زينب" أمها بشيء، فقد شاءت أن تكون لها أسرارها الخاصة، كما كانت خائفة
من أن لا تصدقها أو تعتقد أنها تتخيل أشياء غير موجودة، على كل حال قررت
"زينب" إرجاء الحديث مع أمها إلى وقت لاحق.
في اليوم التالي، كانت
"زينب" جالسة مع نفسها في غرفتها عندما دقت عليها أمها الباب ودخلت،
تكلفت "زينب" فتح كتاب كان قريبا منها، ولكن الأم انتبهت لذلك وقالت:
"فيمَ تفكرين؟".
قالت "زينب":
" لا شيء...".
قالت الأم مستدرجة
ابنتها: "ما أخبار "اللوكر"؟"
"زينب":
"ماذا تقصدين؟"
الأم: "استعملته
أم سوف تنتظرين أسبوعا آخر لتحصلي على "اللوكر" الجديد؟"
زينب (دون أن تنظر إلى
أمها): "لن أنتظر أسبوعا سوف أحصل على "اللوكر" الجديد بعد
يومين"
الأم (مستغربة):
"ألم تقولي أسبوعا؟!"
زينب: "هناك
"اللوكر" 69... صاحبته سافرت مع أهلها للاستقرار في الإمارات..."
الأم: "مبارك، هذا
خبر سعيد...".
نظرت "زينب"
إلى أمها نظرة حزينة وفيها ريبة تجاه وعود السعادة التي أصبحت تراها بعيدة.
قالت الأم في شفقة
ظاهرة على ابنتها: "أريد أن أنصحك نصيحة أخيرة وأرجوك أن تعملي بها".
نظرت "زينب"
إلى أمها معبرة عن حاجتها إلى سماعها.
الأم: "أريدك أن
تكذبي من أجلي على زميلاتك كذبة بيضاء..."
"زينب" معبرة
عن تمردها: "لا أحب الكذب وخاصة الأبيض منه، هذا اللون لا يعجبني إلا في
الحليب".
الأم: "أتحبين أن
آتيك بكأس حليب دافئ مع العسل؟".
قالت "زينب"
وقد ساءها تغيير أمها فجأة لموضوع نقاشهما: "ولماذا تريدينني أن أكذب على
زميلاتي كذبة بيضاء؟ ثم ألم تقولي أنه لا توجد كذبة بيضاء وأخرى سوداء... كله
كذب"
الأم: "أريدك أن
تكتشفي كذبهن، لا تقولي لهن إن رقم "لوكرك" القادم 69، أعطهن أي رقم آخر
وسوف ترين، سيقلن لك إنه "لوكر" مسحور هو الآخر..".
زينب: "لسنا في
حاجة إلى الكذب، في المرة القادمة لن أصدقهن، لن أصدق إلا عيني".
الأم مترجية:
"اسمعي كلامي من فضلك".
قالت زينب متلعثمة:
"أمي.. هل تؤمنين بالسحر؟".
قالت الأم بعد تخمين:
"أؤمن مثلا بالتنويم المغناطيسي، وقد بات يعد الآن علما من علوم
النفس...".
زينب: "وما هو
التنويم المغناطيسي؟"
الأم: "أن تنامي
منتبهة".
قالت زينب ساخرة:
"هل تمارسينه أنت وأبي؟"
الأم:
"لماذا؟"
زينب: "لأنني
أحيانا وأنا أتناقش معكما أحس أنكما نائمان منتبهان.."
الأم: "ماذا يعني
هذا الكلام؟"
زينب: "يعني أنك
وأبي تمارسان علي سحركما".
نظرت الأم إلى ساعتها
ثم قالت: "تأخرت عن العمل، ولكن قبل أن أذهب أحب أن أقول لك شيئا: إذا حصلت على "اللوكر" 13...".
زينب مقاطعة: "ليس
13 إنه 69".
الأم مستعجلة ومقاطعة
بدورها: "أنا أتحدث عن الرقم الذي سوف تعطينه لصديقاتك". وهي تنصرف
مكملة كلامها: "لا تنسي أن لديك مالا في بطاقتك الائتمانية في المدرسة، يمكنك
أن تشتري أشياء تضعينها في "لوكرك"...".
بعد أن غادرت الأم غرفة
زينب، استلقت الأخيرة على فراشها وحدقت إلى السقف مليا ثم أغمضت عينيها مفكرة.
في الصباح عندما وصلت
زينب مع أبيها إلى المدرسة لم تكن تفكر إلا في شيء واحد لا غير، وقد جعلها ذلك
تغفل عن تحية أبيها، ولم تسمعه يودعها. كانت زينب متأكدة أن والدها لا ينسى أبدا
أن يقول لها إنه يحبها وأن يذكرها مثل كل مرة بالتركيز أثناء الدرس مع معلميها
فقط.
لقد أخذ منها تفكيرها
في الصندوق كل وقتها، والتركيز الذي يتحدث عنه أبوها لم تعد تعرفه منذ ثلاثة أيام،
البارحة كانت على موعد مع أغرب ما حدث لها مع هذا الصندوق المسحور، فعندما ذهبت
إليه بعد تناولها غداءها لأخذ فرشاة الأسنان كان في انتظارها أمر عجب، لقد وجدت
فيه علبة "آيس كريم"، كانت هذه هي أكبر مفاجأة لها مع الصندوق 21، لقد
جعلها ذلك في حيرة، كيف أمكن لهذه العلبة ألَّا تذوب، إن الصندوق 21 يقع في الرواق
الجنوبي، وزيادة على أن هذا الرواق غير مكيف فإنه نظرا لاتجاهه يعتبر أسخن الأروقة
على الإطلاق.
إن علبة "الآيس
كريم" هذه هي أكثر ما أفقد زينب توازنها، وقد شكّت في وقت من الأوقات أن تكون
صديقاتها أو واحدة منهن على علاقة بما يجري في الصندوق، لقد حدثت نفسها قائلة:
"إن أي أحد كي ينجح في أن يضع علبة "الآيس كريم" وتبقى كما هي دون
أن تذوب، عليه أن يضعها قبل لحظات من وصولي إلى "اللوكر" وفتحي إياه،
صديقاتي لا يستطعن ذلك، إنني أول من بات يغادر الفصل منذ امتلكت
"اللوكر" 21، ثم إن هذا "اللوكر" يفتح بمغلاق رقمي لا يفتحه
إلا من يعلم بأرقامه السرية، وهو مغلاق من صنع ياباني ولا يمكن العبث به".
لقد سمعت زينب من
صديقاتها في إحدى المناسبات أن بعض الطلبة حاولوا العبث بمغالق صناديق زملائهم،
كانوا يريدون سرقة كراريس بعض الطلبة المتميزين أو الظفر ببعض أسطوانات موسيقى
"الراب" أو "الروك" أو غيرها، هؤلاء الطلبة اصطدموا دائما
بصلابة هذه المغالق واستحالة التلاعب بها.
اقتربت زينب من صندوقها
وهي تبسمل، إنها عادة اعتادتها في التعامل مع الأحداث المفاجئة والغريبة كهذا
الصندوق العجيب. وهي تفتحه غمرها شعور غريب فظنت أنها على موعد مع حدث كبير، لم
تكن متأكدة إن كان هذا الحدث حسنًا أم سيئًا.
كان من عادة زينب أن
تفتح دفة اللوكر على مصراعها، عندما فعلت ذلك هذه المرة ونظرت إلى الداخل وجدت
نفسها أمام صندوق مختلف تماما عن الصندوق الذي عرفته حتى الآن. لقد بدا لها أوسع
بكثير، إنه يسع كل فناء المدرسة الذي وراءها، كانت واجهات الصندوق الداخلية على
مستوى الطابق التحتي والفوقي قد أخذت شكل مرآة كبيرة، وقد انعكس عليها وجه زينب
الواقفة بعيدا قليلا، كانت خلفيتها مشهد فناء المدرسة بجدرانه البيضاء المنيرة
وأشجاره الخضراء الزاهية. كان الصندوق مبهرا حقا، فقد احتضن كل تلك الأضواء التي
كانت تغمر الرواق الجنوبي.
ومن أكثر ما ميز تلك
المرآة أنها اختُطَّت بأفنان نباتية من القطن اللاصق ذات ألوان خضراء داكنة
وفاتحة. إنه منظر يسر الناظرين. التفتت زينب كعادتها عن يمينها وشمالها ترى إن كان
أحد قد لاحظ اضطرابها وانبهارها، فرأت صديقاتها قادمات من بعيد.
في السابق، كانت زينب
حين تلمحهن، تطفق تغلق الصندوق حتى لا ترين ما فيه من مفاجآت سحرية، هذه المرة
كانت تريد التأكد من شيء، لقد بدأت تشك في حقيقة ما ترى، فلعل كل ما تكتشفه وتعيشه
مع هذا الصندوق ليس سوى تهيؤات، وهو ما أمكنها استنتاجه من آخر حديث لها غير صريح
مع أمها. من جهة أخرى لم تعد زينب تحقد كعادتها على زميلاتها في القسم، لقد أمست
تشفق عليهن، كما تأكدت بعد أن عملت بنصيحة أمها أنهن كاذبات، فقد قلن لها حين
أخبرتهن أنها سوف تأخذ الصندوق رقم 13 عوضا عن رقم 21، قلن لها بصوت واحد إن
الصندوق 13 هو الآخر مسحور.
بعد انكشاف كذبهن، لم
تعد زينب تعتقد في كلام صديقاتها، ولم تعد تعتقد في قوة شخصياتهن كما كانت تظن من
قبل، وهو ما كان يحملها على تصديقهن واحترام رأيهن والانتقاص من ذاتها.
بسبب كل هذا، بقيت زينب
واقفة أمام صندوقها تنتظر صديقاتها وتتظاهر بأنها لم تنتبه إلى قدومهن.
كان الصندوق 21 بمرآته
المزركشة بأفنان القطن الرقيقة الخضراء باهرا، وكان بمختلف أشيائه المرتبة وتحفه
اللطيفة، التي ظهرت فيه خلال الأيام القليلة الفائتة، مثل خزانة في دكان جواهري.
عندما وصلت البنات عند مستوى الصندوق المفتوح ونظرن خلال فتحته المشرعة شهقن.
قالت إحداهن وهي
"ليلى" وبشكل عفوي: "كم هو جميل ومبهر هذا "اللوكر"! من
أين جمعتِ كل هذه التحف الصغيرة والجميلة؟!
وقالت أخرى متعجبة:
"ولك فيه قناني عطر وعلب صغيرة للعصائر؟ هل يمكنني أن أشرب من عصير
البرتقال؟"
نظرت إليهن زينب وقالت:
"أنتن كلكن مدعوات لدي اليوم، ويمكنكن ليس فقط شرب العصائر، وإنما لكل واحدة
منكن هدية تختارها بنفسها من بين الأشياء التي لدي في "اللوكر""
فرحت البنات وأخذت كل
واحدة منهن تحفة جميلة حسب اختيارها، وأضافت إليها زينب قلما جميلا من بين الأقلام
التي وصلتها دون علمها، كانت زينب سعيدة حين تأكدت أن الأشياء الماثلة أمامها لم
تكن وهما.
عند الدخول إلى الفصل
همست المعلمة "أوليفيا" إلى زينب وبشرتها بخبر سعيد سوف تزفه إليها. عند
جلوس كل الطلبة في الصف، قالت المعلمة أنه تأكد أن صاحبة الصندوق رقم 69 قد سافرت
مع أهلها وأنها لن تعود إلى المدرسة، وقالت: "إن زينب سوف تستلم
"لوكرها" عوضا عن "اللوكر" 21". واتهمت
"أوليفيا" بعض الطالبات دون ذكر أسمائهن بالكذب على زينب وادعائهن أن
صندوقها مسحور. طأطأت البنات الثلاثة رؤوسهن بينما رفعت زينب رأسها عاليا في إحساس
بالانتصار.
في الأخير اختارت زينب
أن تحافظ على صندوقها رقم 21 وألَّا تستبدله بالصندوق 69، واختير الصندوق 21 تلك
السنة كأجمل صندوق في المدرسة، كما أنهت زينب العام كإحدى أفضل طلبة مدرستها.
وفي الصيف، عند شاطئ
البحر، كانت زينب تكتسي زي السباحة وتبني قصرا من الرمل مع أبيها وشقيقها، لقد
أصبحت تحب شقيقها وتروم اللعب معه، كانت تبتسم إليه حين انحنى عليها أبوها وهمس في
أذنها قائلا: "زينب هل تذكرين "اللوكر" 21؟"، فاجأ السؤال
زينب، ونظرت إلى أبيها مستفسرة، قال: "كان كل ما صادفك معه من تصميم أمك
وتنفيذي أنا ومساعدة معلمتك "أوليفيا".. كانت "أوليفيا" هي
التي نفذت إحدى أصعب المهمات وهي وضع علبة "الآيس كريم" في
"اللوكر"". كانت زينب فاغرة فاها لا تكاد تصدق ما تسمع، وذلك رغم
الابتسامة التي طفحت أخيرا على شفتيها. وقد بلغت سمعه كلمة "آيس كريم"
صاح الشقيق قائلا: "أريد آيس كريم".
وبالفعل استضاف الأب
ولديه وزوجته في إحدى الأماكن السياحية الجميلة وأخذوا أكواب "آيس
كريم"، ورغم أن الجميع قد أعجبوا كثيرا بما استطعموا إلا أن رأي زينب كان
مختلفا، لقد بالغت في استحسان طعم "الآيس كريم" الذي وجدته في الصندوق
21، وقالت: "إنه ألذ وأطيب من كل "آيس كريم" تذوقته قبله وبعده". لقد كان -حسب قولها- "فعلا سحريا". (انتهت)
تعليقات
إرسال تعليق