قصة للأطفال: "الأستاذ والببغاء"


"الأستاذ" والببغاء
(قصة للفتيان)
بقلم: محسن الهذيلي
لا أدري كيف اشتهر بين الناس بلقب "الأستاذ"، ولكن ما أعرفه أنه يعمل مدرسا.
في إحدى الأيام وهو راجع من المدرسة، اعترض سبيله صبي في التاسعة يحمل في يده قفصا فيه عصفور.
بعد أن سلم، سأل الصبي الأستاذ إن كان يريد شراء ببغاء، نظر إليه ثم إلى العصفور في القفص وقال: "لا يبدو أنه ببغاء"
قال الصبي: "لأنه ابن ثلاث شهور، عندما يكمل الحول سوف تتأكد أنه ببغاء"
قال الأستاذ: "إذن تريدني أن أشتري عصفورا سيكون ببغاء بعد تسعة أشهر؟"
قال الصبي: "هو الآن يسمى فرخ ببغاء"
قال الأستاذ: "ولماذا تريد أن تبيعه؟!"
قال الصبي: "إن قلت لك الحقيقة هل تشتريه مني؟"
قال الأستاذ: "إذن أنت مصر أن تبيعه لي؟!"
قال الصبي مبتسما: "نعم"
قال الأستاذ مستغربا: "لماذا؟!"
قال الصبي: "يبدو أنك تحب العصافير وتريد أن تصبح كاتبا وهذا الببغاء ملهم"
قال الأستاذ: "وكيف عرفت أنني أحب العصافير؟!"
قال: "لأنك حين رأيت العصفور في القفص قربت وحنوت عليه تتأمله"
قال الأستاذ وقد لمعت ابتسامة سعيدة على شفتيه: "طيب، وكيف عرفت أنني أريد أن أصبح كاتبا"
قال الصبي: "لأنك تمشي وعيناك إلى الأرض"
قال الأستاذ: "وهل هذا دليل على من يريد أن يصبح كاتبا؟!"
قال الصبي: "معناه أن في قلبك شيئ تريد أن تقوله وأنت تبحث كيف تعبر عنه، وبما أنك رجل متعلم، وهذا يبدو من مظهرك، فإنك سوف تقرر في الأخير أن تكتبه"
فكر الأستاذ في كلام الصبي قليلا ثم قال: "والآن أخبرني، ماذا تقصد بقولك إن هذا الببغاء ملهم؟!"
قال الصبي: "إنه عندما يكون معك تأتيك الأفكار سهلة كأنها الهواء الذي تتنفسه"
قال الأستاذ: "إذا كان هذا العصفور كما تقول لماذا لا تستبقه لنفسك؟!"
قال الصبي: "لهذا سألتك، إن أنا قلت لك الحقيقة هل تشتريه مني؟"
فكر الأستاذ قليلا ثم قال وقد زاد فضوله: "نعم سأشتريه، أخبرني الآن عن حقيقته التي تنفرك منه.."
قال الصبي: "إن هذا الببغاء لا يحب أن يعيش في القفص.."
قال الأستاذ مستغربا: "هل معنى هذا أن أشتريه منك وأطلقه؟!"
قال الصبي: "يمكنك أن تطلقه داخل بيتك"
فكر الأستاذ ثم قال: "ولكني أراه في قفص وهو غير متضايق من ذلك"
قال الصبي: "عندما يكون في قفص ويكون في الخارج فلا بأس، أما إن كان في الداخل فإنه لا يرض"
قال الأستاذ وقد زاد استغرابه: "وإن لم يرض ماذا عساه أن يصنع؟!"
قال الصبي: "هذه بقية الحقيقة التي سأخبرك بها، إن هذا الببغاء عندما تجعله في القفص وتعلقه في الداخل يصيح صيحة لا يحتملها أحد بحيث تجري به إلى الخارج دون انتظار"
قال الأستاذ: "إذن حله سهل، وهو أن نعلقه في الخارج"
قال الصبي محرجا: "ولكن..." ثم سكت.
قال الأستاذ: "ولكن ماذا؟!"
قال الصبي: "إن أنت علقته في الخارج فلابد أن تبقى معه، لأنك إن انصرفت عنه، ملأ الدنيا صياحا لا يحتمل"
قال الأستاذ وقد عيل صبره: "إذن لا حل مع هذا العصفور سوى أن نطلقه في الطبيعة"
قال الصبي وهو هذه المرة أشد إحراجا: "ولكن..." ثم صمت.
قال الأستاذ: "ولكن ماذا أيضا؟!"
قال الصبي: "لا حل في إطلاقه، لأنك إن أطلقته يعود إليك، فهو متعود على القفص ويخاف من الطبيعة"
قال الأستاذ حانقا: "متعود على القفص؟! ولا يطيق البقاء فيه؟!"
قال الصبي: "بعد أن قلت لك كامل الحقيقة هل تشتريه مني؟"
قال الأستاذ غضبا: "ولكن ما الفائدة من شراء هكذا ببغاء؟!"
قال الصبي: "لقد قلت لك، إنه ببغاء ملهم".
دون أن يفكر طويلا سأل الأستاذ عن سعر الببغاء، دفعه إلى الصبي، أخذ القفص ورجع إلى البيت. عندما علقه في غرفة الجلوس وجلس يقرأ كتابا، بسرعة بدأ الببغاء الصغير في الصياح، في البداية لم يتخيل الأستاذ أن ذلك الصوت العنيف إنما يصدر عن ذلك العصفور الصغير في القفص، إنه صياح يشبه الزعيق.
بسرعة خاطفة، أخذ الأستاذ القفص وغادر القاعة جريا إلى الحديقة حيث علقه ودخل، برهة وملأ صياح الببغاء الصغير الأرجاء ثانية، "إنه صياح عابر للجدران والأبواب، ولابد أن الجيران قد تأذوا منه"، قال الأستاذ في نفسه.
أخيرا، قرر الأستاذ أن يكمل قراءته في الحديقة رغم أن الجو كان باردا ذلك اليوم. وحتى عندما آذاه البرد وفكر في الذهاب إلى الداخل ليجئ بمعطفه استمسك ولم يشأ الابتعاد عن الببغاء خوفا من صياحه.
بقي الأستاذ يومها يتأمل الببغاء الصغير ويفكر في حل للتخلص منه، وعوض أن يجد الحل وجد نفسه لأول مرة في حياته يفكر جديا في كتابة قصة، أخرج ورقة وقلما، ولم يدخل إلى بيته حتى أكمل كتابة قصة لطيفة للفتيان.
قال الأستاذ في نفسه: "يبدو أن كلام الصبي صحيحا، إن هذا العصفور ملهم حقا، فهذه القصة كنت أحلم بكتابتها منذ سنين ولم أكتبها إلا عندما حصلت على هذا الببغاء الصغير، لابد لي من حل لأستبقي معي هذا الكائن الظريف الملهم، ولكن قبل ذلك لابد من التخلص من صياحه".
كان للأستاذ صديق يعمل في الحدادة، دعاه إلى بيته وطلب منه أن يصنع له قفصا كبيرا جدا يضعه في غرفة الجلوس ويجعل داخله "كنبة" وطاولة وكرسي، بحيث يصبح فضاء يكتب فيه وعندما يريد أن يرتاح يتمدد على "الكنبة".
بعد أقل من أسبوعين كان القفص جاهزا. وقد جعل فيه الحداد بابا كبيرا للدخول والخروج. عندما وضع الأستاذ الببغاء داخل القفص الكبير وأغلق الباب، ضحك الحداد وقال: "لقد صنعت لعصفورك الصغير قفصا يسع فيلا".
الأشهر الأولى التي تلت صنع القفص مرت هادئة مطمئنة وملهمة بالنسبة للأستاذ، فقد كتب فيها عددا غير قليل من القصص، وبدأ يشتهر ككاتب قصص للفتيان.
مع الوقت كبر فرخ الببغاء وأصبح ببغاء كبيرا. وكان لونه أحمر وبرتقالي ومنقاره ورجلاه بيضاء ناصعة. كان جميلا حقا. كما كان خفيف الظل أيضا، حيث ينطق من حين لآخر ببعض الكلمات التي تعلمها من الأستاذ.
وفي يوم من الأيام كان الأستاذ يكتب في القفص كالعادة وكان الببغاء سعيدا، وإذا بعصفور يقف على الشباك، عندما طار العصفور ملء الببغاء المكان صياحا يكاد يقتلع الآذان من أماكنها.
فهم الأستاذ أن ببغاءه محتاج إلى الأنس فخرج يومها واشترى له عددا من الببغاءات جعلها في القفص. استحسن الببغاء الصغير وجود الببغاءات الأخرى معه في القفص الواسع وزادت سعادته. وبات الأستاذ محبا للببغاءات ينفق أغلب ماله الذي يجنيه من الكتب في شراء الأنواع المختلفة منها.
في إحدى الأيام زارته أخته فوجدته داخل القفص يكتب وهو محاط بعدد غير قليل من الببغاءات، كانت فضلاتها تملؤ المكان. طلبت الأخت من أخيها أن يتزوج فلعل الزوجة تساعده على أن يكون بيته أكثر نظافة. قال الأخ إنه لا يعتقد أن هناك إمرأة تقبل أن تعيش مع رجل بمثل سلوكه.
كان للأخت صديقة اسمها "نجيبة" تعلم الأطفال ومغرمة كثيرا بكتابات "الأستاذ"، في إحدى المناسبات طلبت "نجيبة" من الأخت أن تتوسط لها عند أخيها فتتزوجه. عندما تعرف الأخ على الفتاة أعجبته وتزوجا سريعا.
قضى "الأستاذ" و"نجيبة" أياما جميلة مع بعضهما، ولكن مع مرور الأسابيع ثم الأشهر عيل صبر الزوجة التي لم تعد تحتمل وجود الطيور في بيتها وطلبت من زوجها أن يتخلص منها فرفض. حينئذ غادرت البيت ولم تعد. حزن "الأستاذ" كثيرا لفراقها ولم يستطع نسيانها.
في إحدى الأيام رجع الأستاذ من المدرسة، فوجد قفص الطيور خاليا إلا من ببغائه الأحمر والبرتقالي، بحث في القفص عن الثغرة التي ربما هربت منها الطيور فلم يجدها، سأل الببغاء أين ذهبت باقي الطيور فلم يجبه، فأنّى لببغاء أن يرد على سؤال الآدميين؟! هو في أفضل الأحوال قادر على إعادة السؤال!
انتبه "الأستاذ" إلى أنه إن بقي هو وببغاءه دون صحبة فسوف يزيد حزنهما وربما يقضيان، خاصة مع حزنه على زوجته "نجيبة". ولم يكن أمام الأستاذ إلا أن يشتري ببغاءات جديدة، ولكن للأسف لا يدور نصف الحول على طيور "الأستاذ" حتى تختفي من القفص ولا يبقى إلا ببغاءه البرتقالي والأحمر.
بعد مرور أربع سنين تقريبا، رجع "الأستاذ" من العمل فوجد أن الطيور قد اختفت كالعادة، ووجد ببغاءه الوفي مكورا في إحدى زوايا القفص حزينا، اقترب منه "الأستاذ" ومسح عليه وتأمله، فإذا بالببغاء ينطق قائلا: "هل تريد أن تعرف أين تذهب الطيور حين تغادر القفص؟"
وقد فاجأه نطق الببغاء، سأل الأستاذ: "وهل أنت تتكلم؟!"
قال الببغاء: "صحبتي لك علمتني الكلام"، ثم سأله: "وأنت هل صحبتي علمتك الطيران؟"
نظر الأستاذ إلى الببغاء مستغربا سؤاله وأعاد آخر كلمة قالها مثل ببغاء: "الطيران؟!"
قال الببغاء: "سوف تطير معي وسآخذك إلى طيورك"
قال الأستاذ: "وكيف أطير وليست لي أجنحة؟!"
قال له الببغاء كالساخر: "وهل تظن أننا نحن الطيور نطير بسبب أجنحتنا؟"
قال الأستاذ مندهشا أكثر: "وكيف تطيرون إذن؟!"
قال الببغاء: "نطير لأننا نحب أن نطير" ثم سأل صاحبه: "وأنت هل تحب أن تطير؟"
قال الأستاذ وقد أغمض عينيه: "كنت دائما أحلم أن أطير"
قال الببغاء: "إذن أطلق جناحيك"
قال الأستاذ بعد أن فتح عينيه والدهشة تغطي محياه: "وهل لي جناحان؟!"
قال الببغاء على عجلة من أمره ومشيرا إلى يدي الأستاذ: "أطلق جناحيك وارفع رجليك من فوق الأرض واتبعني"
قال الأستاذ وهو لا يصدق ما يسمعه من الببغاء: "أرفع رجلي عن الأرض؟! تريدني أن أسقط؟!!!"
قال الببغاء: "أغمض عينيك ثانية وتخيل نفسك عصفورا...".
أغمض الأستاذ عينيه، أمال رأسه وكأنه يتوسد الهواء، أطلق يديه في الفراغ، رفع رجليه عن الأرض، فإذا هو يطير ويحلق فعلا.
كان الببغاء يمضي أمامه وهو يتبعه إلى أن وصلا إلى حديقة الحيوانات في المدينة.
كان أجمل ما في الحديقة قفص في شكل قبة كبيرة، كان القفص يحتضن كل طيور وببغاءات الأستاذ وفراخها، عندما تعرفوا عليه فرحوا. نزل الأستاذ على الأرض وطاف بالقبة، وتأكد من حبه الكبير للطيور والببغاءات وعرف أن مكانها في تلك القبة الكبيرة في حديقة الحيوانات والناس تزورها خير لها من بيته. غير بعيد، كانت هناك لوحة مكتوب عليها: "هذه الطيور هدية من الكاتب القصصي المعروف بـ"الأستاذ"".
لن أقول لكم إن كان "الأستاذ" قد رجع إلى بيته طائرا مع ببغائه أم ماشيا على الأقدام وببغاؤه على كتفه، فذلك ليس مهما كثيرا الآن، ولكن دعوني أخبركم ماذا حدث عندما وصل إلى بيته، لقد فوجئ بوجود زوجته "نجيبة" هناك، كانت بصحبتها طفلة جميلة لها من العمر زهاء الأربع سنين، عندما رأى الأستاذ البنت بجانب زوجته أحبها وسألها من تكونين؟ نادته في لهفة: "بابا" وسعت إليه...
بعد تقبيل وعناق بين الأب وابنته، سألت الزوجة زوجها: "ما رأيك في فضاء طيورك الجديد؟... يمكنك أن تشتري طيورا متى شئت وتضعها فيه!"، نظر الأستاذ إلى زوجته باسما ثم جعل رأس ابنته على صدره وخده على خدها وأغمض عينيه وهمس قائلا: "إنني أطير". (انتهت)
جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
© mohsenhedili2@gmail.com

تعليقات