"شمسة" لم تعد تخاف
بقلم: محسن الهذيلي
تتميز الطفلة "شمسة" بحس فني، فهي زيادة عن كونها تعزف على آلة
الكمان، تحسن الرسم والتلوين. وهي أيضا من عشاق القراءة. محافظة المكتبة في
مدرستها أعطتها أخيرا لقبا جديدا، لقد لقبتها بـ"زهرة المكتبة". أسعد
هذا اللقب "شمسة" كثيرا. وقد نالته لأنها دائمة المكوث في المكتبة
وكثيرة القراءة، وهي تقرأ بثلاث لغات: العربية والانجليزية والفرنسية.
في البيت، تتمتع "شمسة" بغرفة لوحدها، وقد زينتها بأعمالها
الفنية المختلفة، وتعلق في صدرها آلتها للكمان. ليس لـ"شمسة" في غرفتها
تلفزة ولا إنترنيت ولكنها تملك حاسوبا. ولأنها تحب السينما فإن أمها اختارت لها
عددا من أفلام التحريك تشاهدها في وقت الفراغ.
لا تحب شمسة من الأفلام ما يبعث على الخوف، لأنها حساسة جدا. بعض صديقاتها
يقلن لها: "أنت لست حساسة أنت خوافة"، ولكن شمسة تدافع عن نفسها وتقول:
"أنا لست خوافة ولكن أفلامكم هي المرعبة".
أحيانا تنجح صديقات "شمسة" في إقناعها بسماع ملخص لفيلم شاهدنه
وأعجبهن، وفي الغالب يكون فيلما مرعبا. بعد ذلك تصبح شمسة خائفة حتى في غرفتها
التي تحبها وتعتبرها مثل مملكتها.
من الحلول التي تلجؤ إليها "شمسة" لتُذهب عنها الخوف، القراءة،
قراءة الكتب وخاصة القصص، ولكن عندما تكون الصور التي ألقت بها صديقاتها في ذهنها
مرعبة فإن هذا الحل لا ينفع معها. فتلجؤ حينئذ إلى أحد والديها.
كانت أمها منشغلة عندما جاءتها "شمسة" إحدى مساء وطلبت منها أن تأتي
معها وتفعل ما هي بصدد عمله في غرفتها كي تؤنسها. فهمت الأم أن ابنتها خائفة فطلبت
منها أن تقرأ بعض القصص كالعادة، قالت لها شمسة: "لقد قرأت وأعدت قراءة كل ما
استعرته من المكتبة"، قالت الأم: "إذن إقرئي قليلا من القرآن الكريم
وسوف تطمئنين"، قالت شمسة يائسة: "القرآن الكريم كبير جيدا وهو ليس مثل
قصة، لذلك لا أستمتع بقراءته، ثم لماذا تريدينني أن أقرأ القرآن الكريم وأنا
خائفة؟"، قالت الأم: "لأن القرآن الكريم يعلمنا أسرارا مهمة عن الخوف،
فهو يلقننا أولا أن لا نخاف إلا من الله، ثم يقول لنا إن خوفنا من الله ليس كخوفنا
من غيره، فنحن حين نخاف من غير الله نهرب منه، أما مع الله فخوفنا منه يجعلنا نهرب
إليه..."، قالت شمسة: "أنا خائفة الآن من شيء يلاحقني حتى إلى غرفتي، ولا
أجد مكانا آخر أهرب إليه منه".
قامت الأم وجاءت بكراس وقلم ونسخة من القرآن الكريم، وبعد أن فتحت النسخة على
صفحة بعينها، قالت لابنتها: "هذه سورة القلم، إقرئيها وسوف تنامين، فإن لم
تستطيعي، أطلب منك أن تستخرجي لي من هو النبي أو الرسول الذي ذكرته السورة ثم أن تكتبي قصته في بعض أسطر، وسوف يشغلك ذلك عن هواجسك وتنامي".
أخذت شمسة المصحف والكراس والقلم، قبلت أمها مثل كل ليلة، ثم بدأت
في قراءة السورة. عندما انتهت من قراءتها لم تجد رغبة في النوم، ولكنها أحست
بالطمأنينة وبحاجة إلى كتابة قصة النبي الذي تعرفت عليه خلال أواخر آيات السورة.
وتحكي الآيات عن نبي الله يونس ويلقب فيها بصاحب الحوت، لأن حوتا ابتلعه.
عندما أرادت "شمسة" أن تكتب القصة، كانت لاتزال مسكونة بمخاوفها،
ولكن حضور شخصية سيدنا يونس آنستها فأرادت أن تقربها أكثر من حياتها ومن هواجسها
الحالية، لقد استضافته في قصتها وهو الانسان الذي يشبهها قبل أن يكون النبي الذي
أرسله الله ليعلم الناس.
حكت "شمسة" في قصتها ما يلي:
"مثلما تقول أمي، الناس المؤمنون لا يخافون إلا من الله، ومن يخاف
الله لا يهرب منه وإنما يهرب إليه، معنى ذلك أن الله لا يخيفنا في الحقيقة وإنما
يدعونا إليه وإلى رحمته. وأن يخاف المؤمن من غير الله معناه أنه لم يتعرف على رحمة الله،
لأن رحمته هي باطن الخوف منه.
وسيدنا يونس قبل أن يصبح نبيا، كان مثلي يخاف، لم يكن مثلي يخاف من الأفلام
المرعبة هذه، وإنما كان يخاف من الحوت. وسبب خوفه هذا أنه كان يعيش في قرية على
الساحل ويرى الصيادين يعودون من البحر محملين بالأسماك، أحيانا كانوا يأتون
بالحوت. كان مشهد الحوت يخيف سيدنا يونس فلا يعود قادرا، مثلي، على النوم.
ولكن النبي هو أكبر المؤمنين وبالتالي لا يجب أن يخاف من أحد غير الله، لذا
كي يصبح سيدنا يونس نبيا عليه أن لا يخاف إلا من الله، لقد ألقى الله بسيدنا يونس
في البحر فابتلعه الحوت.
كان سيدنا يونس مذعورا والحوت يبتلعه، ولكنه تبين بعد ذلك أنه لم يؤذه، لا
بأسنانه القوية ولا ببطنه المظلم، فبدأ سيدنا يونس يقول في نفسه: "هذا الحوت
لا يخيفني، أنا لا أخاف إلا من الله". بعد ذلك، ندم سيدنا يونس على الخوف
الذي غلب عليه كل فترة عمره السالفة...
في هذه اللحظة من تفكير سيدنا سليمان وهو في بطن الحوت، لفظه هذا الأخير
على الساحل، عندما نهض ومشى على الأرض أحس بالطمأنينة وعدم الخوف وبالثقة في النفس
فحمد الله، حينئذ اصطفاه الله نبيا"
عندما انتهت "شمسة" من كتابة حكايتها عن سيدنا يونس، حمدت الله فغلبها
النعاس فنامت.
لم يكن نوم "شمسة" نوما هادئا وحسب بل إنها حلمت فيه حلما جميلا
جدا، لقد وجدت نفسها في أعماق البحار محاطة بكل أنواع الأسماك والحيتان التي يمكن
أن تخيف أي إنسان، ولكن "شمسة" لم تخف، لأنها تعلمت من سيدنا يونس، لقد كانت
تلعب مع تلك الحيتان والأسماك، وكان من بينها سمك القرش الذي كان مجرد التفكير فيه
يرعبها، لقد كانت تلمس بأصابعها أنياب سمك القرش وهي تضحك... وكانت أثناء ذلك تسمع
صوتا يخاطب الحوت ويقول له: "هذه شمسة من جماعة سيدنا يونس، لا أحد يخوفها..."
عندما نهضت في الصباح، كتبت شمسة رؤيتها كي لا تنساها، ثم أعدت نفسها
للذهاب إلى المدرسة.
عندما رجعت بعد الظهر، قامت بواجباتها ثم جلست تقرأ كتبا جديدة استعارتها
من المكتبة، في المساء عندما جاءتها أمها تطمئن عليها قبل النوم، قالت لها "شمسة"
إنها لم تعد خائفة مثل البارحة، وإنما بقي لديها شيء من خوف قليل، وقالت إنها
تريد منها أن تشير عليها بسورة جديدة من القرآن الكريم. أخذت الأم المصحف وفتحته
على سورة الأنبياء.
قرأت شمسة السورة ولم تنم، لقد وجدت أن النبي الرسول الذي ذكرته سورة الأنبياء
هو سيدنا إبراهيم فأرادت أن تكتب عنه قصة جديدة تُذهب بها ما تبقى من خوف في روعها.
لقد كتبت "شمسة" ما يلي:
"كان سيدنا إبراهيم رسولا نبيا، وقبل ذلك لم يكن، مثل سيدنا يونس، يخاف
من الحوت، كان خوفه من النار. كان قوم سيدنا إبراهيم يستعملون النار في صناعة السيوف
والرماح وكان حين يراها يخاف منها، ولكن الله لا يصطفي لنفسه رسولا يخاف من غيره،
لذا رمى الله بسيدنا إبراهيم في النار.
عندما وجد سيدنا إبراهيم نفسه في النار ووجد أنها لا تحرق قال في نفسه:
"هل هذه هي النار التي كانت تخيفني كل ذلك الوقت، لقد خدعت بها، لن أخافها
بعد اليوم"
عندما خرج سيدنا إبراهيم من النار، أحس أنه بدون خوف وأنه بات حرا وقويا
وإنسانا كاملا، وتجلى الله في روحه فقال هذا ربي وخاف منه وهرب إليه"
عندما أكملت "شمسة" قصة سيدنا إبراهيم غلبها النعاس فنامت، كان
نومها مثل المرة السابقة هادئا ومطمئنا، ومثل الليلة السابقة رأت رؤيا جميلة زادتها
هدوء وطمأنينة.
لقد رأت "شمسة" نفسها أمام بيت قد التهمته النيران والناس من
حوله يتصارخون، لقد نجا كل متساكنيه إلا رضيعا واحدا بقي في الداخل، كانت أمه تصيح وتريد
أن ترجع إليه وكان الناس يمنعونها، فالنار مستعرة ولا يمكنها أن تنجو بنفسها إن هي
دخلت.
أحست "شمسة" أنها مثل سيدنا إبراهيم لم تعد تخاف النار، عندما تقدمت إليها
سمعت ألسنتها تتحدث فيما بينها قائلة: "هذه شمسة لا تحرقوها أو تخوفوها، إنها
من جماعة سيدنا ابراهيم". وفي لمح البصر تحولت ألسنة اللهب في عين شمسة من
حمراء تميل إلى الصفرة إلى بيضاء مليحة، لقد بدت تشبه القطن وقد نفخ عليه الهواء، أو
هي مثل الثلج عندما ينزل.
دخلت شمسة خلال قطن النار وثلجها، دون خوف، عندما وجدت نفسها داخل البيت
المشتعل بحثت عن الرضيع فوجدته يبكي، حملته بين يديها وخرجت به ثم قدمته إلى أمه،
لقد سعدت به الأم سعادة كبيرة وقبلت شمسة وشكرتها.
غير بعيد، كان هناك صبي يتابع ما يجري، اقترب من شمسة وقال لها: "هل
يمكنك أن تأتيني برسالة جعلتها تحت وسادتي، دخلت شمسة ثانية وسط البيت المشتعل
وجاءت للصبي برسالته، أخذها الصبي منشرحا وفتحها ثم قرأها أمام شمسة، كان مضمون
الرسالة ما يلي: "يا الله، أريد منك معجزة كي لا أعود أخاف من غيرك".
عندما نهضت شمسة من نومها كانت آمنة مطمئنة ولم تعد تخاف من شيء، ولكنها
وجدت نفسها تقول وتكرر دون وعي منها تلك الكلمة في رسالة الصبي: "يا الله،
أريد منك معجزة كي لا أعود أخاف من غيرك".
في الليلة اللاحقة، طلبت شمسة من أمها أن تأتيها بالقرآن الكريم وأن تفتحه
على إحدى السور، لم تكن شمسة تريد بذلك ابعاد الخوف عنها، فهي لم تعد تخاف، ولكنها
كانت تريد التعرف على حكاية جديدة لأحد الأنبياء.
كانت سورة طه التي أشارت إليها الأم تتحدث عن سيدنا موسى، عندما انتهت شمسة
من قراءتها كتبت ما يلي:
"لم يكن سيدنا موسى يخاف من الحوت مثل سيدنا يونس ولا من النار مثل
سيدنا إبراهيم وإنما كان خوفه من البحر. وذلك على الرغم من أن أمه حين وضعته في
التابوت وألقته في اليم، لم يكن اليم بحرا وإنما كان نهر النيل، لا أعرف كيف أصبح
خوف سيدنا موسى من البحر...
على كل حال، ما كان لنبي رسول أن يخاف شيئا غير الله، لذا جعله الله وجها
لوجه مع البحر وجعل فرعون وجنوده من ورائه، كان على سيدنا موسى أن يواجه البحر
الذي يخيفه، كانت لدى سيدنا موسى عصاه التي جعلها الله معجزة في يده، ضرب بها البحر،
فإذا بالبحر يخاف وينفلق ويفترق بعضه عن بعض، قال سيدنا موسى في نفسه:
"هل هذا هو البحر الذي كنت أخافه كل تلك السنين، إن عصا صغيرة أرعبته
وقصمته". مشى سيدنا موسى واثقا مطمئنا غير خائف يضرب بقدميه الأرض، والبحر عن
يمينه وشماله وأصحابه خلفه"
عندما أكملت "شمسة" حكاية سيدنا موسى، أغلقت كراسها ونامت نوما
عميقا، ورأت رؤيا أعجبتها كثيرا، لقد وجدت نفسها تمشي على إحدى الشواطئ، فإذا بها
تسمع الأمواج تتكلم فيما بينها وتقول: "هذه "شمسة"، من جماعة سيدنا
موسى، لا تخوفوها وابتعدوا عن طريقها، وإذا بالبحر ينفلق ويصبح مثل جبلين على اليمين
وعلى الشمال وإذا بشمسة تتقدم دون خوف وتتوغل فيه. كانت تمشي على رماله وتَخبر
أعماقه، تتأمل صدفاته وتتجول خلال شعابه المرجانية، إحدى الصدفات كانت كبيرة ولامعة.
فتحتها، فإذا فيها لؤلؤة ضخمة، أخذتها وقطفت معها عرف مرجان جميل...
عندما نهضت "شمسة" في الصباح، كانت آمنة مطمئنة لا تخاف، وهي
تتلمس وسادتها أحست بشيء تحتها، رفعتها فوجدت عرف المرجان واللؤلؤة الكبيرة. كانت
مفاجأة وفرحة لا توصفان بالنسبة إليها. سألت نفسها: "ألم يكن ما حصل لي مما
يراه النائم؟!" ثم قالت وهي تتأمل اللؤلؤة والمرجان: "أليست هذه هي المعجزة
التي تحدث عنها الصبي؟؟؟!!!".
أخذت "شمسة" الكراس والقلم وكتبت آخر رؤيا رأتها. عندما انتهت،
دخلت عليها أمها فأبهرها جمال اللؤلؤة وعرف المرجان، سألت ابنتها: "من أين
جئت بهذا؟!"، ولأنه لم يكن لشمسة أي جواب فقد أعطت أمها الكراس وطلبت منها
قراءة ما فيه...
(انتهت)
(انتهت)
© جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي (mohsenhedili2@gmail.com)
"يا الله، أريد منك معجزة كي لا أعود أخاف من غيرك"
ردحذفرائعة.