دروس عمي "إسحاق" البستاني
بقلم: محسن الهذيلي
أكثر ما يميز حينا أشجاره وحدائق بيوته، وكل من يزورنا
يقول: "ما أحسن أن يهتم أصحاب البيوت بحدائقهم". والحقيقة أن فضل ذلك يرجع إلى عمي
"إسحاق" البستاني.
ويبلغ عمي اسحاق من العمر زهاء الستين، ويَقْدُم كل
أسبوع من موطنه في "الجبل الأخضر" إلى مسقط، ويبقى خمسة أيام يقضيها
متنقلا بين أشجار وزهور حدائق حينا، يسقيها ويرافقها في نموها.
ويقضي عمي إسحاق في ذلك كامل اليوم حيث يختفي تحت
الأشجار وبين الزهور لساعات عديدة.
يبدأ عمي إسحاق عمله يوميا إثر صلاة الفجر. هناك من يقول
إنه يبدأ قبلها ثم يصلي الفجر في المسجد ليعود ثانية إلى الحدائق.
وعندما يتكلم عمي "إسحاق" عن حدائق حينا يقول
عنها: "حدائقي" رغم أنها ليست له. وعندما يُسأل عن سبب إلحاقه الحدائق
بنفسه بينما هي لغيره، يقول: "الأرض لزارعها" ثم يضحك ملأ فيه، ثم وعيناه
مغمضتان يقول: "إنما الأرض أرض الله..."
ورغم أن عمي "إسحاق" يتقاضى أجرة على عمله إلا
أن له في كل حديقة حوضا صغيرا يزرع فيه ما شاء من الخضار يجنيها عندما تطيب
ويبيعها ضمن حينا نفسه.
ولقد أصبحت هذه الأحواض ومحصولها من حق عمي إسحاق وحده،
حتى إن الأمهات والآباء يحذرون أبناءهم أن يمدوا أيديهم إليها أو يتعرضوا لها بمكروه.
ويبيع عمي "إسحاق" بعضا من محصول تلك الأحواض ويهدي بعضها الآخر.
وتتميز خضار عمي "إسحاق" بطعمها الطيب ولونها
الزاهي، وأهل الحي يشترونها في الغالب ليهدوها، وعندما يسألونه: "لماذا هي
طيبة جدا؟"، يرد عليهم: "إنها تقريبا عضوية..."
ولكن أهم ما يميز ثمار عمي اسحاق علاقته الخاصة بحدائقه،
فبينه وبين أشجارها وزهورها ود ومحبة.
لقد شاهدنا عمي اسحاق، عديد المرات، يتحدث إلى نباتات
وأشجار "حدائقه"، ويكون حديثه إليها همسا، وعمي "إسحاق" لا
يرفع صوته أبدا.
ويخبر عمي "إسحاق" الأشجار والنباتات بكل شيء،
ففي المساء يحدثها كيف قضى يومه، وعندما يرجع من بلده في عطلة نهاية الأسبوع
يحدثها كيف كان سفره. يخبرها عن أحوال أشجاره وخاصة أشجار الرمان والجوز في "الجبل الأخضر".
وكثيرا ما سُمع وهو يحدثها عن الود والرحمة والتعاون الذي
بينه وبين زوجته، وسُمِع مرة يقول لإحدى الأشجار: إن زوجته هي التي علمته كيف يكون
صديقا لأشجاره.
ويقوم عمي "إسحاق" بنسج علاقات صداقة بين
أشجاره ونباتاته في أرضه في "الجبل الأخضر" وأشجاره ونباتاته في
"حدائقه" في حينا. حيث يبلغ سلام أولئك لهؤلاء وسلام هؤلاء لأولئك.
وعندما تزهر أشجار الرمان في أرضه في "الجبل
الأخضر" يحدث بذلك أشجار "حدائقه" في مسقط.
ولا ينسى عمي "إسحاق" أن يعطي لكل شجرة أو
نبتة، مهما كانت صغيرة، إسما خاصا بها لا يناديها إلا به، لأن النباتات حسب قوله
لا تحب أن تكون نكرة.
وكثيرا ما يسمع وهو يناجي زهوره فيقول لها مثلا:
"أنتم أجمل زهور المدينة على الإطلاق"
وحين تمرض إحدى زروعه يداويها بالذكر والدعاء لها
بالشفاء، ويطيل وقت المكوث معها يحدثها أكثر عن تنقلاته وشؤونه ونظرته للعالم.
كما يحب أهل حينا عمي "إسحاق" لأنه أقل بستاني
استهلاكا للماء، فسقيه لزرعه وأشجاره يتم بقدر، فأثناء سقيه لإحدى
"حدائقه" يخبر من فيها من زرع بأن الماء الذي يسقيها به يمنحها الحياة،
وهو أعذب المياه، وأن عليها أن تستمتع به وتسعد.
ولا ينسى عمي اسحاق أن يذكّر الأرض، دائما، بأن تكون
ودودة مع زرعه وأشجاره وأن لا تنسى الصداقة التي تربط بينهم. كما يخبر الزرع أنه
لولا الأرض لما نمى وكبر، ويخبر الأرض أنه لولا الزرع لما أحب الناس الأرض، لأن
الناس إنما يحبون الأرض حين تتزين بالأشجار والزهور...
وفي إحدى الأيام استدعى الأطفال عمي "إسحاق"
للاجتماع بهم في الساحة، عندما جاءهم طلبوا منه أن يصادق بينهم وبين نباتاته.
أعجبت الفكرة عمي اسحاق فطلب من الأطفال أن يعبروا له عن حبهم للنباتات بالدعاء
لها بالخير.
عندما انتهوا طلب من كل طفل أن يزرع نبتة جديدة في حديقة
بيتهم ويطلق عليها إسما ويتخذها صاحبا.
وطلب عمي "إسحاق" أن يحفظ كل طفل سورة جديدة
من القرآن الكريم، يقرأها على نبتته عندما تنبثق عن الأرض أول مرة.
عندما ظهرت النباتات على سطح الأرض ظهرت في ذات اليوم
تقريبا. لقد غلب يومها صراخ أطفال حينا وهم يقرؤون، كل في حديقته، سورة مختلفة من
القرآن الكريم.
في اليوم التالي، دعا عمي "إسحاق" كل الأطفال
إلى الساحة الكبيرة ولقنهم كيف يتكلمون إلى نباتاتهم، أخبرهم بأن الصراخ يؤذيها،
وقال أن الأفضل أن يخاطبوها همسا. كما علم عمي "إسحاق" أصدقاءه الأطفال
كيف يساعدون نباتاتهم على النمو السريع والحسن. طلب منهم أن يحدثوها عن أنفسها، قال إنه من المهم بالنسبة للنبتة
الصغيرة أن تحدثها عن نفسها وتنبهها إلى نموها، تقول لها مثلا: "أنت تكبرين
بسرعة، لون أوراقك أخضر زاهر، عدد أوراقك في اليوم الثاني ثمانية وهو عدد كبير ما
شاء الله".
ويدعو عمي "إسحاق" الأطفال إلى أن يحدثوا
نباتاتهم الصغيرة بأهمية العلاقة بينها وبين التربة وأن تكون علاقة ود ومحبة
وتكامل، لذا لابد لهم من أن يمتدحوا إلى نباتاتهم باقي الأشجار المحيطة بها، ويخبروها
بأنها كريمة ومتضامنة معها وتحمل لها كل الود وتدعو لها بالرحمة كي تكبر"
ويؤمن عمي "إسحاق" ببركة الدعاء، لذا فإنه
دائما ما يطلب من الأطفال أن يدعوا له ولأوليائهم وإخوانهم وأقاربهم وجيرانهم وكل
أصحابهم بالخير، كما يطلب منهم ألا ينسوا الدعاء لنباتاتهم، وبالاسم أيضا".
في يوم من الأيام جاءت إحدى الأمهات إلى عمي
"إسحاق" وقالت له إن ابنها شديد الاهتمام بنبتته للحد الذي لم يعد معه
مهتما بدراسته.
استدعى عمي اسحاق كل أطفال الحي آخر النهار، وسألهم عن
أحوال نباتاتهم، ثم قال لهم: "هل تحدثونها عن المدرسة؟"، قالوا:
"لا"، قال عمي إسحاق: "لابد أن تحدثوها عن حياة المدرسة، وعندما
يحصل أحدكم على درجة جيدة في إحدى المواد فعليه أن يخبر بها نبتته، يقول لها مثلا
لقد حصلت على أحسن درجة في مادة كذا اليوم". وأكد عمي "إسحاق" أن
ذلك يسعد النبتة ويجعلها أكثر تألقا وسعادة لأنها ستكون أكثر حبا واحتراما لصديقها.
وبعد صلاة الفجر، أخبر عمي "إسحاق" الأطفال
بأن أحسن أوقات الحديث مع نباتاتهم هو وقت الفجر، ففيها تكون نفوسها مفتوحة لأنها
تكون في انتظار أرزاقها.
وقال عمي إسحاق: "إن كل طفل يحب صديقا، في الحي أو
في المدرسة أو من أقاربه، عليه أن يأتي به إلى بيتهم ويقدمه إلى نبتته، يقول لها
إن هذا فلان صديقي وإني أحبه".
من جهة ثانية حذرنا عمي "إسحاق" من أن نخبر
نباتاتنا بخصوماتنا مع أصدقائنا في الحي أو في المدرسة لأنها تحزنها وتجعلها تذبل،
فالله فطرها على التكامل مع كل ما يحيط بها، وهي لا تعرف معنى الخصومة فيما بينها،
وما يجمعها هو الود والحب والرحمة والدعاء والتسبيح.
في آخر السنة دعا عمي "إسحاق" كل الأطفال
للاجتماع في ساحة الحي وطلب من كل واحد منهم أن يأتيه بثمرة من نبتته، يومها كانت
هناك كثير من أنواع الزهور والثمار والخضار. عمي إسحاق جاء يومها وفي يده صندوق
كبير لم يفتحه إلا عندما عرض الأطفال منتوجاتهم.
عندما فتح عمي "إسحاق" الصندوق وأفرغ ما فيه
أمامهم، صاح الأطفال بصوت واحد: "ما هذه الأشياء القبيحة؟!"
قال عمي "إسحاق": "إنها ليست قبيحة
ولكنها أقل جمالا"، وقال إنه مر إلى المغازة القريبة واشترى منها بعضا من
زهورها وثمارها وخضارها.
لا توجد أي مقارنة بين ما أنتجه أطفال حينا وما يمكننا
أن نشتريه من الدكان. قال عمي "إسحاق": "هل تدرون ما الفرق بينها؟
إن هذه (وأشار إلى ثمارنا وخضارنا وزهورنا) تزينها المحبة والرحمة والود التي
تعاطيتم بها معها، أما هذه (مشيرا إلى ما اشتراه من الدكان) ففاقدة للجمال لأنها
فاقدة للحب والود والرحمة"
عندما أكمل عمي "إسحاق" حديثه، قال لنا:
"تهادوا أشياءكم" ثم طلب منا بعد ذلك أن نعانق بعضنا بعضا وأن نسامح
بعضنا بعضا. عندما انتهينا، سمعنا صوت الأذان فنهضنا وذهبنا إلى المسجد للصلاة. (انتهت).
©
جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي (mohsenhedili2@gmail.com)
تعليقات
إرسال تعليق