قصة للأطفال:
ياسين يفكر ماذا يريد أن يكون عندما يكبر
بقلم: محسن الهذيلي
لقد بلغت التاسعة هذا الصيف، ومنذ كنت في الخامسة وأمي تطلب مني أن أختار ماذا
أريد أن أكون عندما أكبر وما العمل الذي أحب أن أمتهنه. تقول إن ذلك سوف يساعدني
على أن أركز أكثر على دراستي وأن يكون لي هدف أبني عليه معارفي وأحلامي، وهو ما
سوف يجعلني أجتهد أكثر في تكوين شخصيتي بحيث تتماشى مع ذلك الاختيار.
أقول لها: "إنني أريد أن أكون مثل أبي" فتقول: "أريدك أن
تختار شيئا يتماشى مع ميولك واستعداداتك أنت وليس أن تقلد أبيك". ولكن ما هي
استعداداتي؟! إنني أرى في أبي هدفا أريد أن أبلغه. وفي كل السنين التي مضت أي بين
الخامسة والتاسعة بقيت مصرا على اختياري هذا ومقتنع بأن عملي لابد أن يكون مثل عمل
أبي، ولكن أمي بقيت مصرة هي الأخرى على أن تدفعني لأختار شيئا مختلفا.
في الأشهر الأخيرة زاد انزعاج أمي مني، لأنني كي أبتعد عن شخصية أبي ومهنته
وجدت شخصا آخر أعجبني عمله وتمنيت أن أكون مثله في المستقبل. إنه عمي عبد الباسط،
أكثر رجل محبوب في مدرستنا، يحبه الطلاب والأساتذة ويحترمه الناظر احتراما كبيرا.
ولعمي عبد الباسط عدة أعمال في المدرسة، فهو المنظف والحارس وجنان الحديقة. وعمي
عبد الباسط يأدي عمله المتقن كل يوم والسعادة تغمر قلبه ومحياه.
قلت لأمي: "إني متأكد الآن من اختياري، فإما أن يكون عملي مثل عمل أبي
أو أن يكون مثل عمل عمي عبد الباسط". وهي تخفي انزعاجها، وأنا أعرف جيدا أمي
عندما تخفي انزعاجها، قالت: "ومن عمك عبد الباسط؟". أمي امرأة متعلمة
وذكية وذات شخصية حديدية كما يقول عنها والدي. وهي تسألني، كنت أشعر أنها عرفت من
الرجل الذي أقصده والذي أريد أن أكون مثله عندما أكبر، قلت لها وأنا متردد:
"إنه عمي عبد الباسط جنان المدرسة ومنظفها وحارسها" وأضفت قائلا: "إنني
أحب أن تكون لي كل تلك الأعمال، أي أن أكون في ذات الوقت حارسا ومنظفا
وجنانا".
وحتى أحتفل باختياري، بقيت أكرر ما قلت، وأنا أخاطب نفسي: "لقد حسمت
أمري سوف أكون مثل عمي عبد الباسط وكذلك لن أكتفي بعمل واحد". قالت أمي وهي
تحاول أن تتملك نفسها رغم الغضب: "ولكن هذه الأعمال يمكنك أن تقوم بها في
بيتك مثلما يفعل أبوك، فهو يشارك في تنظيفه ويتعهد حديقته، وهو يحرسه وإن لم يجلس
عند بابه مثلما يجلس عمي عبد الباسط عند باب المدرسة".
قلت لها: "ولكن أبي يفعل ذلك ليس لأنه عمله، أنا أريد أن يكون ذلك هو
عملي وأن أقوم به مثل عمي عبد الباسط، ليس في بيته، وإنما في مدرسة أو في جامعة أو
حتى في مصنع".
عندما جاء أبي من العمل حدثته أمي باختياري الجديد. لاحظت أن أمي وهي تخبر
أبي كانت تحدثه بنبرة تعبر فيها عن سخطها وعدم رضاها على اختياري. بل إنها قالت
لأبي إنني أريد أن أنقطع عن الدراسة، وهو شيء لم أفكر فيه أبدا، فأنا أحب الدرس
والمدرسة.
فكر أبي مثل عادته مليا ثم سألني: "هل يعجبك عمك اسماعيل؟"،
ابتسمت سعيدا وقلت: "إنني أحبه كثيرا وعمله يعجبني" ثم نظرت إلى أمي
مستبشرا وقلت: "يمكنني أيضا أن أكون مثل عمي اسماعيل راعيا للغنم ومثلما يقول
عمي اسماعيل نفسه فإن رعاية الغنم هو عمل كل الأنبياء والرسل".
كان واضحا أن كلامي لم يعجب أمي، لأن أمي عندما لا يعجبها كلامي أو كلام
أحد آخر فإن وجهها يصبح أحمرا أقحوانيا وتتوقف فجأة عن الحديث وتحدق إلى أبي
وكأنها تستجديه أن يتكلم مكانها، في إحدى المرات سألتها: "لماذا يا أمي عندما
تغضبين تتوقفين عن الكلام؟!" قالت: "ذلك حتى لا أغلط في الكلام".
ودائما عندما تفعل أمي ذلك يتكلم مكانها أبي حتى وإن لم يكن له شيء يقوله. ودائما
عندما تغضب أمي يصبح أبي ألطف شيء معها وفي ذات الوقت يبقى لطيفا معنا أنا وإخوتي،
قال لي أبي: "هذا اختيار جميل مثل كل اختياراتك حتى الآن ولكن أحب أن أسألك
هل أكمل عمك اسماعيل دراسته قبل أن يصبح راعيا للأغنام في الجبل؟".
عمي اسماعيل هو صديق أبي منذ الطفولة، وعندما نذهب إلى الجبل لابد أن نلتقي
به وربما نقضي معه أنا وأبي أغلب وقتنا في الجبل، وأمي صديقة لزوجته وأخواتي
صديقات لبناته. وعمي اسماعيل لم يكمل دراسته وحسب، بل حصل، قبل أن يختار أن يصبح
راعيا، على الدكتوراء. أكثر من ذلك، لقد كان أستاذا في إحدى أكبر الجامعات
الفرنسية. وفي يوم من الأيام الباردة جدا في باريس، والضبابية جدا، والمغيمة جدا
والملوثة جدا والصاخبة جدا، كما يروي هو نفسه، قرر أن يرجع إلى بلادنا وأن يصبح
راعيا للأغنام في الجبل الذي فيه أرضهم وبيتهم.
ويعيش عمي اسماعيل على محاصيل تلك الأرض التي يملكها وعلى ما تدره عليه
أغنامه وماعزه من لحم وحليب.
وأبي الذي نادرا ما يأكل اللحم ولا يشرب الحليب إلا للضرورة، كما يقول، عندما
يكون مع عمي اسماعيل يصبح نهما شرها يحب لحم الخرفان وحليب ماعزه.
الآن حدثتكم عن عمي اسماعيل وعمله، وعرفتم قبل ذلك من يكون عمي عبد الباسط
وما هو عمله، ولكنني لم أخبركم عن عمل أبي.
إن عمل أبي بسيط جدا وسهل جدا وجميل. لقد تخصص أبي في علم التغذية وهو يعمل
مع بعض المرضى الذين لم تعد الأدوية التي نعرفها والتي نشتريها من الصيدليات تنفع
معهم أو أنهم عزفوا عنها لأنهم عرفوا أنها لا تنفعهم بل تضرهم. إنه يعلمهم ماذا
يأكلون ويشربون ومتى. كما يعلمهم كيف يقضّون أوقاتهم، وذلك حتى يشفوا أو لا تتعقد
حالاتهم الصحية.
في الفترة الأخيرة، وكما يقول أبي، بات الناس أكثر وعيا، فأصبح حتى غير
المرضى يأتون إلى أبي يعلمهم ماذا يأكلون ويشربون وكيف يغيرون نظام حياتهم.
ويدعو أبي مرضاه وأصحاءه دائما أن يقوموا بأنفسهم بتنظيف وترتيب بيوتهم وأن
يرعوا حدائقهم بأنفسهم. ويدعوهم ألا يخافوا من الشمس بل يحبوها، لأنها منجية. وقد
سمعت أبي يقول لأمي إن الشمس هي "الفيتامين دي" المحصن لأجسامنا
والمدافع عنها ضد الأمراض والآفات.
ويعتبر أبي "الفيتامين دي" وكذلك "الفيتامين سي" من
أسرار الله في حياتنا. وله لوحة كبيرة في مكتبته في البيت مكتوب عليها "فيتامين
سي+ فيتامين دي=حياة". وفي إحدى الأيام كنت أحفظ الحروف اللاتينية على ورقة
فجاء أبي وجعل حرفي "السي" و"الدي" في دائرة واحدة وكتب
"فيتامينات تعطي الحياة".
وينصح أبي مرضاه وأصحاءه بالتنفس جيدا، لأن الهواء فيه "الأكسجين"
الذي يقاتل بشراسة ضد الأمراض. ويدعو أبي دائما للذهاب إلى الجبل من أجل استنشاق الهواء.
لأن هواء الجبل ليس مثل هواء المدينة. وعندما يكون الجبل بعيدا وكنا نعيش على
الساحل فيمكننا أن نذهب إلى البحر نتنفس عنده.
وعندما نذهب إلى البحر، حتى في الشتاء، ينصح أبي، أن نحمل معنا، دائما، ثوب
السباحة. فإن وجدنا أن البحر هادئا سبحنا فيه. إن البحر بحر من الماء
و"الإيود"، يقول أبي. وبالنسبة للإيود فإنه دواء من الأدوية التي يعالج
بها أبي.
والدي لا يذهب أبدا إلى المطاعم والمقاهي، ولكنه يتعامل مع الجبل والبحر
والحدائق مثل تلك الفضاءات الترفيهية. وكم من مرة أعد لنا مع أمي في البيت بعض الأكلات
الخفيفة وذهبنا نأكلها على شاطئ البحر أو في حديقة المدينة.
وكم يحب أبي التجوال في حينا بعد نزول المطر، وهو دائما ما يدعو مرضاه
وأصحاءه إلى ذلك، كي يتنفسوا الهواء الصافي النافع.
ويعمل أبي كثيرا مع الأطباء رغم أنه ليس طبيبا. بل إنه كثيرا ما يختلف
معهم. خاصة فيما يتعلق بالدواء، لأن والدي لا يؤمن بالدواء. والدي يؤمن بالأكل
والشرب والهواء والشمس والعرق عندما يتصبب من أجسادنا فينظفها.
عندما يتحدث أبي عن العرق الذي يخرج من جسده عندما يعمل في الجبل أو في
حديقة بيتنا، يشبهه بتنظيف البيت بالماء وإخراج الأوساخ منه. ومن أدوات التنظيف
للجسد عند أبي الصيام وهي سنة كل الأنبياء والرسل، كما يقول. ولأن الصيام ينظفنا
جيدا فإن أبي يسميه "الصونا".
وأبي عندما يريد أن ينظف بطنه، كما يقول، يطبخ بعض الحشائش التي يجمعها في
الجبل ويشرب ماءها. وبنفس تلك الحشائش يعالج أغلب مرضاه. وهو دائما ما يهدي منها لأصدقاءه
وأفراد عائلته وعائلة أمي.
يحب والدي الزهور عندما تكون في الجبل، ولكنه لا يحبها كثيرا عندما تكون في
محل بائع الأزهار، لذا لا يهدي والدي زهورا وإنما يهدي غلالا وثمارا وربما خضروات.
أحيانا تحمر أمي بسبب بعض سلوك أبي، وتتوقف عن الحديث كما هي عادتها عندما تغضب
كثيرا، وذلك لأن أبي يصر أثناء عيادة أحد الأحباب أو الأقارب من المرضى على أخذ
علبة صغيرة من الكرز العضوي. وهو كرز لم يعالج بالأدوية أو الأسمدة. ويجمع أبي
الكرز من أرضنا أو أرض عمي اسماعيل في الجبل. ولأن أمي لا تلحق تتفوه بأي كلمة
فإنه يقول لها: "إن الرجل يشكو من مشكلة بسيطة في الكلى والكرز هو أفضل علاج
له".
أحيانا يزور أبي نفس الشخص بشطر بطيخ جاء به من الجبل، وعندما أكون معه ومع
أمي أقارن دائما بين حمرة البطيخ وحمرة وجه أمي. ولكن وجه أمي يكون دائما أجمل.
لأن أمي عندما تغضب يحمر وجهها وعندما يحمر وجهها يذهب غضبها ويبقى جمالها، هكذا
قال لي أبي إحدى مرة.
وتمزح أمي مع أبي عندما نكون وحدنا، لا تمزح معه أبدا ونحن مع الناس، لأن
أمي عندما تمزح مع أبي يصبح وجهها أحمر قاني، وحمرة وجهها هنا ليست دليلا على غضبها
وإنما دليل على أنها تحب أبي، هي قالت لي ذلك، لأنني في إحدى المرات ظننتها غاضبة
فقالت: "بل إنني سعيدة".
في يوم من الأيام زرنا جدتي من أمي وأخذ لها والدي معه هدية غريبة، كنا في
موسم المشمش فقطف والدي بعض حباته من أرضنا، أخرج منها نواتها، فتحها عن حبوب تشبه
حبوب اللوز، وهي طيبة مثلها، وضعها في علبة صغيرة جميلة، غلفها بغلاف للهدايا،
ربطها برباط لامع وردي وقدمها لجدتي وطلب منها أن تأكل منها كل يوم.
عندما خرجنا من عند جدتي مزحت أمي مع أبي واحمر وجهها كما هي عادتها وقالت
له: "لو وجدت كيف تعلب الهواء أو الشمس لكانت تلك هديتك المحببة لكل من
تزورهم"، وعندما تمزح أمي مع أبي معناه أنها تحبه كما قلت، فيكون رد أبي
دائما أن يضحك في وجهها ويتأملها. ذلك اليوم قال لها: "لا تسخري من الهواء
والشمس يا امرأة فتلك هدية الله لنا"
نرجع الآن إلى اختياري "ماذا أريد أن أكون عندما أكبر"، لقد طال
حديثي مع أبي يومها، وقد نجح أن يرضي أمي ويلقنني أشياء لم أكن أعرفها، لقد قال إن
أمي محقة عندما قالت إن التنظيف ورعاية الحديقة والحفاظ على الأمن يجب أن لا يكونوا
مهنا وإنما على كل الناس أن يقوموا بها متعاونين. وأن يكون ذلك ليس فقط في بيوتهم
بل وحتى في المدارس والجامعات والمصانع والشوارع وغيرها.
ووعدني أبي بأن يأتي معي إلى المدرسة ويلتقي ناظرها ويقنعه بفكرة أن يقوم
الطلبة وأولياؤهم بشكل دوري بمساعدة عمي عبد الباسط في تنظيف المدرسة والمحافظة
على نظافتها ورعاية حديقتها.
بعد ذلك طلب مني أبي أن لا أجيبه في حينها على سؤال أمي "ماذا أريد أن
أكون في المستقبل؟"، وإنما أن أكتب له على ورقة نوع الحياة التي أحلم بأن
أعيشها وما هو العمل الذي يتماشى مع تلك الحياة ويساعدني على تحقيقها.
وفي الحقيقة، وجدت أن سؤال أبي أكثر تعقيدا من طلب أمي، وهو أمر لم أفكر
فيه قبل ذلك أبدا... أي أنني كنت أعيش بدون أي فكرة عن الحياة نفسها.
انتظرت العطلة فذهبنا إلى الجبل كالعادة، فجلست تحت شجرة كرز ظليلة، ونظرت
من تحتها إلى الآفاق البعيدة، رأيت الأشجار الخضراء والسماء الزرقاء والشمس
المضيئة. كانت زقزقات العصافير تداعب أذنايا فأطرب، أخذت كراسي وقلمي وكتبت: "أريد
أن أعيش تحت الشمس، يكتنفني الأخضر والأزرق، وأرى العصافير السعيدة ترفرف من حولي
وهي تغني".
ومن يومها أخذت قراري بأن أكون إنسانا يدعو الناس إلى المحافظة على الطبيعة
التي هي أكبر نعمة أنعم الله بها علينا جميعا. بعدها بدأت أقرأ عن قضايا التلوث
بأنواعها ومن بينها الحروب التي تستعمل فيها كل أنواع الأسلحة المدمرة، وكم أنها
تقتل الطبيعة والناس وتلوث الماء والهواء وحتى الشمس. نعم إن التلوث يفسد الشمس،
"الفيتامين دي"، لأنه يفسد علينا طبقة "الأوزون"...
بعدها تعمقت أكثر في هذا الحقل، فبدأت أبحث عن كل الحلول والمشاريع التي تمنع
افساد الحياة. وحينئذ صادفتني كثير من الكلمات المعقدة التي لم أفهمها فسألت أبي
عنها فقال لي: "إنك سوف تعرفها عندما تتخصص في هذا العلم وتتعمق فيه، ولا
تنسى أن العلم مثل الشمس نور ومثل الهواء حياة"
جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com
تعليقات
إرسال تعليق