أول احتفال بعيد ميلادي
(مذكرات خاصة جدا)
بقلم: محسن الهذيلي
كانت بدايتنا مع بعضنا صعبة قليلا. كانوا في سنة تخرجهم ضمن قسم التصميم
الداخلي، وكانوا في البداية يتوجسون خيفة مني، فقد التحقت حديثا بالكلية ولا أحد
منهم يعرفني.
أثر ذلك في مردودهم وأخفقوا جميعا في اختبارهم الأول، كنت عادلا معهم فجاءت
أعدادهم ضعيفة وربما ضعيفة جدا. كانت قيمة التمرين عشرة في المائة ورغم ذلك لاحظت
تأثر الطلبة بضعف أعدادهم.
كنت أنتظر منهم، بعد هذا الحادث، إما الانضباط والعمل بجد أو بداية التمرد
علي واللجوء إلى الإدارة لتأليبها ضدي.
من حسن حظي كان أغلب طلبتي أصحاب كفاءات فنية وعلمية، فكان رد فعلهم من هذا
المنطلق.
وسبب حسن كفاءة أغلبهم أن مجموعة المتخرجين في قسم التصميم الداخلي ضمن
دفعة الربيع كانت منقسمة إلى فصلين: فصل أخذه دكتور قديم في الكلية وفصل أعطيته.
ولأن الدكتور الآخر كان معروفا عند الطلبة فإن أغلب هؤلاء اختاروه، وذلك من باب:
"من تعرفه خير ممن لا تعرفه".
ولأن جزءا من الطلبة الأذكياء وأغلب الضعاف قد ذهبوا وسجلوا سريعا مع
الدكتور القديم، ولأن أولئك الأذكياء كانوا دائما على صراع من أجل المراتب الأولى
مع أذكياء آخرين، فإن هؤلاء الآخرين، ولتجنب ذلك الصراع الذي أصبح غير ودي في
السنتين الأخيرتين، قرروا أن ينتظروا، وعندما امتلئ فصل الدكتور القديم جاؤوا
وسجلوا معي.
لذا وجدت نفسي في النهاية ضمن مجموعة من الطلبة غالبيتهم من المتفوقين وأصحاب
الكفاءات الحسنة. ولكن هؤلاء المتفوقين كانوا مع ذلك محتاجين إلى بعض الدفع وكثير
من التحميس حتى يعملوا على قدر امكانياتهم الجيدة عموما. فقد كانت مشكلتهم الوحيدة
عدم الثقة في أنفسهم، ولتجاوز هذه العقبة تحدثت معهم كثيرا ورويت لهم حكايات كثيرة
وذكرتهم بكل الإيجابيات التي لاحظتها فيهم.
بعد التمرين الأول وأعداده السيئة، بدأ الطلبة يستمعون إلى توجيهاتي بأكثر
اهتمام وتركيز وبدأت أراهم يعملون بجد. كما استجابوا لدعوتي بأن يشتغلوا في الصف
وليس في بيوتهم فقط. كنت أيضا حازما غير متسامح في تسجيل الغيابات ووجدتهم
يتأقلمون قدر المستطاع مع ذلك. فقد تبين لي أنهم لم يكونوا متعودين على احترام
أوقات الحضور. من جهة ثانية، لم أعد أسمح لهم بوقت مستقطع للراحة إلا في آخر الحصة
كي يبقوا مركزين على شغلهم.
ثم بدأت النتائج الايجابية تأتي، وذلك منذ الاختبار الثاني، حيث أظهر
الطلبة ثقة أكبر في أنفسهم وفي منهجيتي التي لم يكونوا متعودين عليها، فهي تعتمد
على التصميم من خلال الرسم على الورق باليد وليس على الحاسوب، كما كنت أطلب منهم
دائما الرجوع إلى أمثلة لمشاريع شبيهة بالمشروع الذي يعملون عليه، كما من منهجيتي
أن يعملوا أثناء ساعات الدرس ويتناقشون كثيرا مع بعضهم ويتعاونون فيما بينهم.
بعض الطلبة وبسبب تجارب سابقة كانوا خائفين من زملائهم أن يسرقوا منهم
أفكارهم لذا لم يكونوا متحمسين للعمل في الصف أثناء ساعات الدرس. بعد الاختبار الثاني
أحسست أن هذا الخوف قد تلاشى وبدأ الجميع يعملون مع بعضهم دون عقد وبوجه عار.
وبدأت أرى علاقة ودية وتعاونية تولد بين طلبتي، ورحت أسمع أنهم باتوا يلتقون
في الخارج ويعملون مع بعضهم، ولاحظت أيضا أنهم أحيانا ما يبقون بعد ساعات الدرس
المفروضة يعملون في الصف ولا ينصرفون.
في أثناء ذلك كان المردود يتحسن بسرعة وبدأت أرى بعض الأعمال الجميلة تبزغ
بين الأيدي النشطة والعقول المتوثبة والأحاسيس المرهفة، وأثناء ذلك تعرفت أكثر على
طلبتي ولاحظت وجود نفوس مبتكرة ومبدعة بينهم. بعضها كان الابداع يأتيها بالدموع
والبكاء وبعضها يأتيها بالإصرار والتجريب والعمل المستمر وبعضها يأتيها بالتأمل
والصبر والانتظار.
كنت ألاحظ يوميا حبهم لاختصاص التصميم الداخلي وسعيهم الدؤوب إلى أن يبدعوا
فيه. ومع الأيام بدأت أرى وجوها متعبة تأتيني في الصباح، ولكن كانت الأرواح التي
تحملها سعيدة وفخورة. كنت أحيانا أعجب بالأعمال وأحيانا يبهرني بعضها. ولكنني لم
أكن أقول شيئا في البداية، كنت أنتظر الثمار حتى تينع.
لم أتوقف حتى تلك اللحظة عن التحميس والتحريض على زيادة البحث بعد البحث،
ثم بعدها بدأت أرى الثمار تطيب حتى غمرتني الفرحة وأصبحت أَعِدُ نفسي بمشاريع تخرج
متميزة.
في الشهر الثالث من العمل مع بعضنا لم أعد أرى طلبتي متقوقعين على أنفسهم،
لا اتجاهي أنا ولا اتجاه بعضهم بعضا.
وأذكر أنه في تلك الفترة بدأت أسئلتهم تتعلق بشخصي وتريد التعرف علي أكثر وبدأ
شكرهم لي يزيد والتعبير عن اعجابهم بمنهجيتي رغم اختلافها عما عرفوا في السابق
يكبر. ثم بدأ الحديث يمتد إلى ما بعد ذلك. وفي يوم من الأيام أحسست أن طلبتي كانوا
يريدون التعرف على عمري ثم على الشهر الذي ولدت فيه ثم اليوم بالتحديد.
كان واضحا أنهم أرادوا التعرف على تاريخ ميلادي. وبعد الانتهاء من بحثهم
ذلك صمتوا فجأة. كان تفسير ذلك بالنسبة لي أنهم باتوا منشغلين بالتخطيط لشيء.
ما هو هذا الشيء؟ لا أعرف بالضبط، ولكنني كنت أعتقد أنهم يحضرون للاحتفال بعيد
ميلادي خاصة أنه بات قريبا. كان ذلك مجرد احتمال، لا شيء كان مؤكدا لدي.
ورغم احتمالي ذلك، فإنني لم أطلب منهم الانصراف عن فكرة احياء عيد ميلادي ولم
أقل أن ليس لها قيمة عندي، فأنا لم أحتفل يوما في حياتي بهذه المناسبة. وفي كل سنة
يمر يوم عيد ميلادي مثل باقي أيام الربيع معتدلا في كل شيء.
صحيح أن الأطفال وزوجتي يغنون لي في صباح ذلك اليوم: "عيد ميلاد سعيد..."
ولكننا لم نكن نحتفل به، ويمكن أحيانا أن يكون يوما أصوم فيه فيكون إحساسي بصيامي
يطغى على كل احساس غيره.
أثناء هذه المراجعات بيني وبين نفسي، كان التفاعل بيني وبين طلبتي يصبح
أقوى والاحترام فيما بيننا يمسي حقيقيا، لذا لم أقدر على مصارحتهم والقول لهم:
"لا تتكبدوا عناء شراء هدية لي في عيد ميلادي لأن موقعي كأستاذ لكم لا يسمح
لي بقبول هديتكم خاصة إذا كانت قيمة... ربما يمكنني أن أقبل مشاركتكم كعكة تعد في
البيت ولكنني لن أقبل بالتأكيد ساعة يد ثمينة مثلا".
كنت أفكر في ذلك وأنا أراهم يتململون فيبدون لي وكأنهم يتقوقعون على سر ما،
بل حتى إنني لم أكن أرى تململهم ذلك وإنما كنت أتخيله وكنت أحدسه أيضا.
وفي اليوم الموعود وصلت إلى الفصل، على غير عادتي، متأخرا قليلا، علمت بعد
ذلك من طلبتي أن وصولي متأخرا ذلك اليوم بقدر ما فاجأهم خدمهم، فقد ساعدهم على وضع
كل مستلزمات الاحتفال في آخر الصف وتغطيته جيدا ببعض الأوراق وذلك قبل أن أصل.
لم يكن تأخري عن الوصول إلى الصف قد حدث اتفاقا وإنما تعمدته، لأنني كما
قلت آنفا كنت أحس أن هناك شيئا يخطط له وأن هذا الشيء هو على أغلب الظن اعداد لعيد
ميلادي.
عندما دخلت الصف وجدت الطلبة قد انتهوا من ترتيب أمورهم وجلسوا ينتظرونني، ولاحظت
أن طالبتين كانتا متأخرتين. بعد مضي ساعة أو ربما أكثر من وقت الدرس، بدأت أشك بأن
ما ظننته ربما يكون مجرد تخمينات لا علاقة لها بالواقع، فالطالبتان لم تأتيا ولا
شيء حدث حتى ذلك الوقت. وفجأة وصلت الطالبة المتأخرة الأولى ثم لحقت بها الثانية. حينئذ
دعتني إحدى طالباتي المجتهدات إلى طاولتها كي أراجع معها مشروعها.
كانت تجلس إلى الأمام واتفق أن مكانها يقع قبالة المكيف مباشرة، أحسست
بالبرد فدعوتها أن ننتقل إلى مكان في آخر الصف. لم يكن في الحقيقة في آخر الصف
تماما، ولكننا كنا أقرب إليه منا إلى مقدمه.
لاحظ الطلبة أنني أصبحت قريبا من مكان التحضير لعيد الميلاد فالتفوا من حولي
على غير عادتهم وذلك من أجل التغطية علي. سألتهم ما بهم فقيل لي نريد أن نستفيد
مما ستقوله، أذكر أنني نهرت أحدهم وهو "ناصر" وقلت له: "اذهب اشتغل
ولا تضيع وقتك وسوف أجيئك لأراجع معك مشروعك"، ذهب "ناصر" ومعه
"ماجد" ولكن الطالبات وهن "ضحى" و"شورى" و"نور"
و"سمية" لم يتحركن من أماكنهن أو إنهن تحركن ولكن لم ينصرفن.
وأنا أتطلع إليهن رفعن بأبصارهن إلى آخر الصف ثم التحق بهن الباقون وبدأوا
ينشدون "عيد ميلاد سعيد..."، عندما التفت إلى الوراء رأيت كعكة كبيرة
على الطاولة والشموع فوقها تشتعل وشاهدت أكواب الشاي من حولها. كما لمحت على نفس الطاولة
علبة صغيرة ومستطيلة تشبه علب الساعات. قلت في نفسي: "لقد فعلوها وأعدوا هدية
لي وهي على ما يبدو ساعة يدوية وربما تكون باهظة الثمن"، وأكدت بيني وبين
نفسي أنني لن أقبلها.
بعدها دعيت إلى قطع الكعكة. غادرت إحدى الطالبات الصف مسرعة وجاءت من خارجه
بطالبة أخرى أخذت لنا عدة صور جماعية.
عرفت بعدها أن التي أعدت لنا الكعكة "آية" إحدى طالباتي الشاميات،
وكانت كعكة طيبة جدا، وزينت وجهها بفاكهة أحبها كثيرا وهي فاكهة
"الباينبل".
بالنسبة للهدية فقد تشارك فيها كل طلبتي واشترتها عوضا عنهم نفس الـ"آية"،
صانعة الكعكة، لأنها على ما يبدو أشطر الجميع في ذلك.
كان طلبتي متكونين من شابين وست فتيات. وكان هؤلاء وهن يقدمن إلي الهدية مربوطة
في علبتها ويطلبن مني أن أفتحها، تغمرهن سعادة الأبناء بأبيهم.
كنت أريد أن أقول لهن: "إنني سوف آكل من الكعكة ولكن لن أقبل هديتكم"،
ولكنهن حرضنني على فتح العلبة كي أرى ما فيها. كنت أظنها ساعة، كما قلت، وكنت حتى
تلك اللحظة مصرا، بيني وبين نفسي، على عدم قبولها.
عندما فتحت العلبة وجدتها غير ساعة، وجدتها مختلفة تماما، لقد كانت سبحة
جميلة، عندما لمحتها ثم رفعت رأسي أتأمل وجوه طلبتي من حولي، قالت لي "نور"
سعيدة: "عرفناك تحب التسبيح لذا اشترينا لك سبحة كي تسبح بها كثيرا
وتدعو لنا كثيرا".
ولأن هديتهم كانت سبحة جميلة جدا ولأنهم كانوا يريدونني أن أسبح بها
وأدعو لهم، فإنني نسيت أن أرفضها وانخرطت في أكل سهمي من الكعكة، كما أخذت ما بقي
منها إلى البيت كي يأكل منها أولادي وزوجتي ونحيي معا في البيت أول احتفال
بعيد ميلادي.
في اليوم التالي مررت بمحل فاخر لبيع الكعك الفرنسي فاشتريت تسعة حبات بعددنا. وفي الفصل جددنا الاحتفال ولكن ليس بعيد ميلادي وإنما بطلبتي، كان نوعا من الاعتراف لهم بالجميل.
في اليوم التالي مررت بمحل فاخر لبيع الكعك الفرنسي فاشتريت تسعة حبات بعددنا. وفي الفصل جددنا الاحتفال ولكن ليس بعيد ميلادي وإنما بطلبتي، كان نوعا من الاعتراف لهم بالجميل.
تتمة:
من قرأ ما كتبته حتى الآن وكان منتبها قليلا، لابد أنه لاحظ أن هناك خطأ أو
نسيانا في النص. ويتعلق هذا النسيان بعدد الطلبة وأسمائهم. لقد قلت أن عدد طلبتي
ثمانية: شابان وهما "ناصر" و"ماجد" وست فتيات وذكرت:
"نور" و"ضحى" و"شورى" و"آية"
و"سمية". وهؤلاء خمسة فقط!
إذن هناك واحدة لم أذكرها بالاسم. ولم أنتبه للأمر إلا عندما وزعت نسخا من
الحكاية على طلبتي. قرأوها فقالت لي الفتاة السادسة التي لم أذكر اسمها وهي
"شهد" قالت: "اسم واحد يا أستاذ لم تذكره وهو اسمي...!"، قلت:
"كيف ذلك؟! مستحيل!"، قالت حزينة: "بلى، لقد نسيت أن تذكرني لأنك
ما زلت تكرهني..."
وتدعي "شهد" أنني قلت لها في بداية الدراسة أنني أكرهها، وأنا لا
أذكر أنني قلت لها ذلك، وأنا عموما لا أحب استعمال هذه الكلمة وربما عندما أستعملها
أحيانا قليلة جدا إنما أستعملها من باب المزاح وبالإنجليزية.
ولكن "شهد" تصر على أنني استعملتها معها مرة ولا يهمها إن كان
ذلك من باب الجد أو المزاح، وتدعي "شهد" أن عدم ذكري اسمها في الحكاية معناه
أن كراهتي لها حقيقية ولم تنتهي...
أما عن قصة هذه الكراهية، التي لم توجد في رأيي، فقد بدأت عندما كانت "شهد"
غائبة في بداية الدراسة، لقد غابت طيلة أربعة أو خمسة حصص متوالية، وكنت عندما
أسأل عنها طلبتي يقولون لي: "إنها في العراق وهي لم تصل بعد"، وأظن أنني
قلت لهم في إحدى المرات: "إن طالبة تحبذ أن تمدد عطلتها هكذا وتتأخر عن
دروسها كل هذا الوقت هي طالبة متسيبة ولا تولي أي اهتمام لدراستها"، حينئذ
قيل لي: "إن لها عذرا يا أستاذ، إنها تحتفل بخطوبتها"، أغضبني جواب
طلبتي وقلت: "إذن انتظرت كل أيام العطلة حتى تنقضي وعندما جاء وقت العودة إلى
الدراسة أقامت خطوبتها؟!"
وفي الأسبوع الثالث من الدراسة وكنا في زيارة دراسية لإحدى المعالم، لاحظت
وجود وجه جديد ضمن الحافلة التي وفرتها لنا الكلية، عندما سألت عنها قيل لي:
"إنها "شهد"، قدمت من العراق". عندما نظرت إليها صمتت ولم
تسلم حتى أو تتحدث إلي، فلم يعجبني تصرفها ذلك.
ولكن بدايتي العسيرة مع "شهد" لم تنتهي هنا، ففي نفس ذلك اليوم
الذي خرجنا فيه، وعندما وصلنا إلى المكتبة الرئيسية في جامعة السلطان قابوس،
لدراستها، انقسم الذكور والإناث قسمين فالمكتبة غير مختلطة. قبل أن أنصرف عنهن
طلبت من الطالبات أن يعملن بجد وأن تقوم كل واحدة منهن برفع بعض القياسات والقيام
بالرسومات وأخذ أكثر ما يمكن من الصور لبعض التفاصيل المهمة.
ذهبت مع الطالبين إلى قسم الذكور في المكتبة وبدأنا نرسم كلنا. من قسم
الطلبة وخاصة من بعض الأماكن المفتوحة كان يمكنني أن أرى الطالبات في الطرف الآخر
يرسمن أو يصورن أو غير ذلك.
وفي إحدى المرات بحثت عنهن من بعيد فلم أجد لهن أثرا لا في الطابق الأرضي
ولا في الطوابق العلوية.
خرجت مسرعا من المكتبة وقصدت القهوة القريبة، دخلت من بابها الخلفي فاكتشفت
أن كل طالباتي كن هناك جالسات حول طاولة واحدة يحتسين العصائر ويأكلن الكعك
والشطائر، وكان أول من رأيت "شهد" وهي في وسطهن تحدثهن وتضحك ملئ فيها.
لا أعرف لماذا أحسست في ذلك الوقت أنها صاحبة الفكرة وأنها من جاءت بهن إلى
هناك... وعندما غضبت في القهوة وطلبت منهن أن يرينني أعمالهن، ما كان من
"شهد" إلا أن أخرجت لي ورقة يتيمة مقطوعة كما اتفق من كراس وأرتني رسما
كالحا لوحت به إلي في الهواء.
لقد أزعجني ذلك وقلت في نفسي: "لقد ابتلاني الله هذا الفصل بطالبة
متقاعسة ومستهترة وسوف تفسد علي طالباتي اللاتي عملت على ضبطهن لمدة أسبوعين على
الأقل."
ولم أخفي غضبي في تلك القهوة ذلك اليوم وطلبت من الطالبات أن يخرجن سريعا
وأن يلتحقن بالحافلة ورجعنا فورا إلى الكلية.
بعد ذلك بدأت "شهد" هذه تتكشف رويدا رويدا عن شخصيتها الحقيقية،
وأول ما فاجأني من لدنها وأسعدني كثيرا حبها الكبير لاختصاصها: التصميم الداخلي،
ورغبتها الوافرة في أن تبدع فيه. وبدأت أرى أعمالها تأتيني تباعا جميلة ومبدعة،
وظهر لي حبها للبحث والتنقيب بهدف تطوير عملها دوما، فهي لا تقنع بشيء حتى تحسنه
وتتقدم فيه.
وبعد الاختبار الأول الذي فشل فيه كل الطلبة، جاء الاختبار الثاني ففاجأتني
"شهد" بأول مفاجأة سارة حيث كانت الأولى في الصف وحصلت على علامة "آي".
وبعد ذلك، وقبل الاختبار قبل النهائي، أذكر أنها نادتني إلى طاولتها قبل
أيام منه، وقالت لي همسا: "يا أستاذ، إن عملي سوف يفاجئك..."، فقلت لها:
"لقد فاجأتني وانتهى، إنني أتابع تطور شغلك وأعرف أنك مبدعة فيه"، فقالت
همسا دائما: "لا، يوم الاختبار وعند تعليق لوحاتي سترى ما لم تره حتى الآن
وسوف أفاجئك أكثر..."، نظرت إليها يومها باحترام كبير ودون أن أنبس بكلمة انصرفت
إلى باقي طلبتي سعيدا.
نحن الآن على بضعة أيام من النهائي ولقد بدأت "شهد" تناديني:
"يا أستاذ"، وتتوعدني بمفاجآتها الجديدة وأنها ستكون الأفضل ليس على
مستوى صفنا وحسب وإنما على مستوى كل دفعة الكلية...
الآن بعد تجربتي مع "شهد" بدأت أثق بها كثيرا وأصدقها فيما تعدني
به ولكنني مع ذلك كنت أرى، في ذات الصف الذي أدرّسه، مشاريع أخرى قوية ومبدعة جدا
ولا أعرف في الحقيقة، مَن ضمن طلبتي سوف يفاجئني أكثر...
الخاتمة:
وبعد عمل دؤوب مني ومن الطلبة جاءت الأعمال في الاختبار النهائي جيدة وربما
جيدة جدا وجاء أدناها فوق المتوسط. عمل واحد لم يجتهد صاحبه فانتهى به إلى الرسوب.
كنت سعيدا يوم الاختبار النهائي وكان الطلبة سعداء وفخورين بتوفيقهم في
العمل وابداعهم فيه. وجاءت الأعداد جيدة ومشجعة.
ثم انصرف كل منا في حال سبيله.
وبعد أن أنزلت الأعداد النهائية لكامل السداسي، وأظهرت تفوق "شورى"
في المشروع النهائي وتفوق "نور" على مستوى السداسي كله بسبب عملها المتصل
والمركز من الأول حتى الآخر، وجاءت "شهد" في المرتبة الثانية على مستوى
السداسي. وفرح جميع الباقين بأعدادهم ما عدى واحد لأنه رسب.
وبعد أيام من ذلك، كانت هناك مناسبة كبيرة ومهمة جدا وهي رمضان. ويوم قبله
وربما يومين بدأت الرسائل تأتيني من الأصحاب والأقارب تهنأني برمضان الذي بات على
الأبواب، وعندما بلغنا ليلة رمضان انتظرت رسائل طلبتي التي لم تأتي حتى ذلك الوقت،
وكنت أعتقد أنها ستأتي وستكون متدفقة ومأثرة وانتظرت ثم انتظرت إلى اليوم الأول فالثاني
فالثالث من الشهر ولكن لا شيء وصل، وتوقف الناس عن التهنئة برمضان لأننا أصبحنا في
الثالث منه وعرفت أن طلبتي كلهم قد نسوا أن يهنؤونني أو نسوني.
تحدثت بذلك من حولي فقيل لي بكل هدوء: "عادي.. هم كذلك... أجسام بلا
أرواح...". كنت حزينا فأضحكتني كلمة "أجسام بلا أرواح.." وجدتها
بليغة في حد ذاتها...
ولكن، وحتى أكون أكثر إنصافا، لابد أن أقول أن واحدا من طلبتي هنأني فعلا برمضان،
وهو الطالب الذي رسب، وهو يهنئني بحرارة ترجاني أيضا بحرارة، وكانت آخر محاولة له،
لأنه سبقتها محاولات عديدة جدا، أن أغير علامته بحيث يمكنه النجاح...
السبحة:
في اليوم الرابع من رمضان، أخذت تلك السبحة التي أهداني إياها طلبتي
الأعزاء وذهبت بها إلى السوق القريب من بيتي، كان هناك رجل يجلس دائما على حافة
الطريق يعد المشاوي ويبيعها للمارة، كنت أوقره، رغم أنني لم أقف عليه وأشتر منه
ولا مرة واحدة، ولكنني كنت أراه دائما جالسا يكدح من أجل نفسه وعياله.
ذهبت إلى المكان الذي يعمل فيه ووقفت أنتظر، وإذا برجل يمر من هناك فسألته
عنه، قال لي: "اتبعني"، تبعته فأخذني إلى بيته، دخل ثم خرج وقال لي:
"هو ليس هنا"، قلت له: "من أنت وما اسمك يا شيخ؟"، قال:
"أنا شقيق الرجل واسمي يعقوب"، قلت: "هذه السبحة هدية مني إلى أخيك..."، وبكل بساطة
أخذ الرجل مني السبحة، تأملها، ويبدو أنها أعجبته ثم أمسكها كما لو أنها له. شكرته فقال لي: "سوف
أرجعك من حيث أخذتك وسلك بي طريقا جديدا، كان يمشي أمامي وأنا أتبعه حتى وصلنا عند
السيارة، سلمت عليه ركبت العربة وانطلقت خفيفا.
في السيارة، وحدي، فتحت إذاعة القرآن الكريم فسمعت القارئ يرتل سورة يوسف، أحسست
بسعادة كبيرة وشعرت بأنني مثل سيدنا يعقوب رجع إلي بصري وأحسست أيضا أن السبحة قد ذهبت
إلى من يستحقها أكثر مني وأرجو أن يتسبب ثواب ذلك في تقويم طلبتي حتى يكونوا أكثر
أدبا مع معلميهم.
وتذكرت
قول أبي حامد الغزلي رضي الله عنه: "وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية
الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا،
فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه..."
في نفس اليوم كتبت هذه الخاتمة وأرسلت بها إلى طلبتي مع تهنئتي لهم برمضان...(انتهت)
© جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن
الهذيلي
Mohsenhedili2@gmail.com
تعليقات
إرسال تعليق