عمارة الخلود: "حيز الشجرة"


بقلم: محسن الهذيلي

أحيانا يعجز الأصدقاء، حيث يقولون لي إنهم لا يجدون مكانا يذهبون إليه للاستمتاع... أقول لهم: إن الأماكن التي نرتاح فيها ونسعد، كثيرة وكثيرة جدا. ويمكن أن تكون قريبة منا أكثر مما نتصور...

في هذه السلسلة سوف نتحدث عن بعض من هذه الأماكن والأحياز، وسنبدأ اليوم بـ "حيز الشجرة"... لا تضحكوا علي... نعم، إن الجلوس تحت الشجرة مريح وممتع، بل ومتميز أيضا. لأن الشجرة حين نجلس تحتها تحتضننا وتحنو علينا، وذلك دون أن تغلق أو تحجب علينا الأرجاء والآفاق... وهذا مهم جدا بالنسبة لكل حيز يريد أن يكون جميلا وممتعا. فالفضاء الذي لا تعود ترى منه الأفق والامتداد هو سجن وإن قيل لك إنك في فندق سبع نجوم... فانتبه ولا تنس هذه الحقيقة الحيزية.

إذن الشجرة لا تحجب عنا الأفق بل تأطر لنا سماءه بلونها الأخضر المحبب إلى نفوسنا، فيتولد أمامنا الأزرق خلال غصون الأشجار وأوراقها الخضراء رشيقا جذابا، فتحل في نفوسنا السعادة محل الكدر وتحيط بنا الرحابة وتتغمدنا الرحمة... ثم إن فروع الأشجار وأوراقها دائمة الحركة وفي ذلك ديناميكية وحيوية منعشة... والشجرة في تكوينها تتراوح بين عدة أحجام ومقاييس، فهناك الجذع والفروع والأغصان وصولا إلى الأوراق والزهور وغيرها، وفي ذلك تعدد للقياسات، وقد ثبت علميا أن القياسات عندما تكون متعددة وتتراوح بين الكبير والصغير الذي يكون أكثرها عددا فإنها تصبح مريحة وممتعة ولذيذة في النفس الإنسانية.

والشجرة تظللنا بظلها حين نجلس إليها فيهب علينا النسيم من تحتها محملا ببرودة الأفق وربما عطره اللذيذ. كما تحط على الشجرة العصافير السعيدة فنستمتع بزقزقتها.

ولا ننسى العلم الحديث، حيث أخبرنا من خلال إحدى علومه الجديدة جدا، وهو علم "البيوفيليا"، أن بين الإنسان والأشجار وكل ما هو نباتي علاقة تكاملية وحيوية، بحيث إن وجود النبات في حياة الإنسان يسعده ويعطيه الصحة والعافية.

كل هذا جميل وشيق ولكنه ليس كل شيء بالنسبة للشجرة وفضائها الصغير والرحب في ذات اللحظة.

فالشجرة عندنا نحن المسلمون لها معان ومقامات كثيرة أخرى، ففي القرآن الكريم نجد أن لها شخصيتها ومكانتها وسموها. فمثلا عندما أخرج الله سيدنا يونس عليه السلام من بطن الحوت وأراد أن يحنوَ عليه، ماذا فعل معه؟ لقد احتضنه ضمن فضاء شجرة، وهنا يقول لنا القرآن الكريم إنها شجرة يقطين، وربما يقول لنا العلم إن اليقطين حسن للبشرة خاصة حين تكون حساسة مثل بشرة سيدنا يونس الذي قضى ما شاء الله من الوقت في بطن الحوت. ويقول لنا المولى عز وجل: "وأنبتنا عليه شجرة من يقطين" (الصافات 146).

إذن هذا ما جرى بين الشجرة وأحد أنبياء الله، فماذا عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وحكايته مع الشجرة ذاتها؟ إن أهم مبايعة تمت في الإسلام للرسول الكريم تمت تحت شجرة، وهي بيعة الرضوان وفيها دعى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبايعوه على أن ينصروه نصرا عزيزا.

يقول تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما" (الفتح 18-19).

هنا نرى كيف تحتضن الشجرة بفضائها الصغير المفتوح حدثا مهما في تاريخ الإسلام الوليد، حيث اجتمع تحتها من وصفهم الله بالمؤمنين، وذلك حتى تكون الشجرة حيزا للإيمان وتكون أيضا حيزا للسكينة وكذلك للثواب، وهي حيز يمكنه أن يجعل الفتح قريبا وأن يأتي بالمغانم الكثيرة. لذا فإن الشجرة حيز مبارك.
ولما ﻻ يكون مباركا وتحت ظل شجرة وليس أي شجرة وإنما النخلة، عمتنا، أخرجت السيدة مريم سيدنا عيسى عليه السلام للوجود. 
والنخلة عندما أخبرنا رسول الله بأنها عمتنا إنما أراد بذلك الإشارة إلى حميميتها والرحم والقرابة التي بيننا وبينها.
لقد أردنا بهذا الكلام أن نذكر أنفسنا كي لا ننسى بأن الشجرة حيز حميم، فنقوم بزراعتها في حقولكنا وبيوتنا، وأن نأوي إليها كثيرا، فهي تأتي بكل خير للنفس والروح والجسد والبيوت والحياة كلها...

©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي

mohsenhedili2@gmail.com

تعليقات