"سلطة أصابع":
كلمتان حميمتان اجتمعتا على وصف العنف
رواية سلطة أصابع
للكاتب ثائر الزعزوع
عن منشورات بيجز
176 صفحة من الحجم المتوسط
يطلعنا غلاف الكتاب، الذي رسمه سامر
القادري، منذ البدء، على عنف في مضمون الرواية. العنوان أيضا فيه شيء من العنف. وهو
أمر معقول نظرا لتطرق الرواية إلى أحداث "الثورة السورية". والعنف كان
مرتقبا ضمن نص الرواية نفسه.
وكانت بداية الرواية واعدة على مستوى "العنف"،
وكنت أنتظر المزيد منه خلال تطور الأحداث وتقدمها ولكن ذلك لم يأتي، فقد توالت
الحكاية بعد ذلك أكثر هدوء وأقل عنفا. ويرجع سبب هذا "الهدوء" النسبي
إلى أسلوب الكتابة أو حتى إلى مضمونها حيث كانت رغم سردها للأحداث العصيبة
والمفجعة تأتي في أغلبها تأملية. ومع أن الأسلوب تقريري وصحفي وهو ما أعطاه سمته
الواقعية المتوافقة مع موضوع الحكاية، إلا أن شيئا كثيرا من التأمل مع الاسترسال
والعود في سرد الأفكار وحتى بعض الأحداث والوقائع وحتى الصور، جعل النسق الروائي يبدو
عموما غير متسارع وبعيد عن العنف السمج.
فأثناء سرد حتى أخطر الأحداث وأشدها عنفا، كانت
هناك دائما الفكرة والمثال والمراجع وحتى الوثائق التصويرية التي نستدعي معها شيئا
من العقل والثقافة والمعرفة لنتأمل ونفكر.
فالرواية لم تكن مجرد أحداث وشخوص، بل
تأملات وأفكار أيضا. وبدت أحيانا أشبه بمسودة لسيرة ذاتية. ومن حسن صياغة هذه الأفكار
أنها لم تأتي فلسفية جدا وجامدة باردة بحيث تتعب القارئ وتبعث فيه الملل، بل على
العكس. فبسبب الأسلوب ولغة الكتابة القريبة من الكتابة الصحفية واستعمال الأحداث
المتوالية كوقود لها، جاءت الأفكار مفهومة وبعيدة كل البعد عن التأملية الغارقة.
شخصية "مها" تجلت لنا في البداية
باهتة، بل غير واقعية أحيانا. ولكن، بعد ذلك، تفتحت وتألقت خاصة في فترة القاهرة،
حيث كانت الفترة الأكثر حياة للشخصية الرئيسية للرواية. ففي هذه المرحلة فتحنا
أعيننا فعلا على العالم من حولنا والشخوص الذين كانوا يترددون عليه ويتحركون فيه.
وقد بدت هذه الشخوص حتى وإن كانت ثانوية جدا ذات تألق وإلف، وذلك على غرار بائعة
الجرائد، فهي تنادي لبضاعتها بأسلوب جذاب فيه إحساس إنساني حقيقي. فتقول مخاطبة
السائق عند إشارة المرور: "مش عايز تاكل شوية أخبار؟ دي أخبار حلوة ومش
بايتة..." وهناك المنظف أمام البيت الذي جعلنا نرى كل المنظفين مخبرين، أو
ذلك البائع المتجول الذي بات يناديها بـ “ست الكل"، أو حتى أولئك الفضوليين
أو المشاكسين في السوق والمقهى...
في باقي الرواية كان ازدحام الشخوص أقل،
ومها التي عبرت عن احساس غريب بالبرد خلال جزء مهم من الحكاية كانت ربما تشعر بذلك
بسبب غياب الشخوص الحقيقيين من حولها في الرواية. وخاصة في بدايتها وربما حتى
آخرها، ولعل هذا يصدق حتى على مها نفسها حيث بقيت تحمل رغما عنها روحا أو شخصية
منكمشة رغم جرأتها بعد ذلك والتي تمظهرت خاصة فيما تكتبه. فمثلا لم نشعر خلال كامل
الرواية أن مها قد اتخذت قرارا وتحركت في اتجاه أن تحب مثلا. في كل المناسبات التي
جمعتها بالرجال كانت سلبية أو في موقع ردة الفعل على الأقل أي إما مخطوبة أو
محبوبة.
لم نرها أحبت أحدا بما في ذلك أولادها، فلم
تولي الرواية أي اهتمام في سرد مشاعر مها تجاه أولادها لا في البداية ولا في
النهاية. كما تفاجأنا أثناء استجوابها عند البوليس من إصرارها، في ذلك الموقف
الغريب الشديد الحساسية، على رفضها الاعتراف بوجود شقيق لها من أبيها.
هذا الفراغ في الحب انعكس على كل الأزواج
في الرواية، فجاءت كل العلاقات الزوجية باردة وخالية أو تكاد من الحب، إلا علاقة واحدة
كانت استثناء. لأننا نعتبر أن علاقة جاد بزوجه سلوى وبالرغم من أن فيها شيئا من
الحب الحقيقي إلا أن الكاتب لم يتوقف عندها مليا أو شوهها قليلا بتلك الإشارة
للعلاقات الجانبية لجاد من خارج العلاقة الزوجية والتي ربما أفهمناها على أنها
طبيعية بالنسبة لنجم سينمائي مرغوب. ورغم ذلك فقد قام الكاتب من خلال بعض الاشارات
إلى تصوير أصالة الحب في العلاقة بين جاد وزوجه سلوى ولكن لم يكن ذلك كافيا. وأهم
هذه الاشارات هي العمل التشكيلي لسلوى على خلفية إحساس زوجها جاد بالعذاب تجاه ما
اطلع عليه من أحداث أثناء "مجزرة" حماة. هذا التواصل الشخصي والروحي، أو
ما يمكن أن نطلق عليه توءمة الأرواح، والانسجام الفني كان يمكنه أن يكون بداية
حديث عن علاقة حب حقيقية في الرواية. وإلا فإن جاد وسلوى لم نراهما ونحسهما، خلال
كامل الرواية، إلا متفرقين كل منقطع في صومعة اهتماماته وانشغالاته الفنية
والمهنية. كما أن زيارة جاد لزوجه في المقبرة لم تكن بتلك القوة التي تخرجها عن
كونها مجرد صورة مستهلكة للوفاء.
علاقة الحب الوحيدة في الرواية والتي بدت
لنا أصيلة وطريفة وصادقة وجاءت واضحة رغم التطرق إليها باقتضاب وضمن النسق
المتسارع لمرحلة دمشق بعد عودة مها إليها من رحلة هجرتها مع زوجها وابنيها.
هذه العلاقة النادرة للحب في الرواية هي
علاقة العمة بزوجها، فأثناء الوقت الذي أمضته مها في بيت عمتها وخلال النقاش
والحوار والمتابعة للأحداث عن كثب رأينا شيئا طريفا ولامعا وعميقا ينبثق من بين
العمة وزوجها المسجون السياسي السابق، كانت علاقة ود ورحمة واحترام كبيرة، وذلك
رغم الحرية الواسعة في التعبير عن رأي كل منهما عن الآخر، سواء من خلال كلمة
مجنونة التي يصف بها الزوج زوجته أو من خلال حركات اليد الطائرة في الهواء أو
تهشيم الصحون وهو ما يبدر من الزوجة. وكم لهذه القصة، أي تحطيم الصحون والتصالح
بين الزوجين بعدها، من دور في تصوير المشاعر الانسانية الراقية، حيث يخرج الزوج
المحنك بعد أن تغضب زوجه "المجنونة" وبعد أن تكسر صحون المطبخ ثم تهدأ وتتصالح
معه، ليأتيها بصحون أخرى تكسرها عندما تغضب في المرة القادمة. لقد كانت هذه من
أجمل صور الحب في زمن الثورات التي سالت فيها الدماء ودمرت فيها البلدان وأكثر من
ذلك استفحلت فيها الكراهية والانقسامات حتى داخل البيت الواحد وبين الأزواج
بالطلاق...
على عكس هذه العلاقة الأصيلة، فإن كل
العلاقات الأخرى بين الأزواج في الرواية لم نستشف منها أي حب أو أي شيء. وإنما جاءت
إما باردة لا روح فيها، أو سريعة لاهثة وانقضت في لمح البصر، وكان أغلبها مما
أملته الظروف، وعلاقات مها جاءت كلها هكذا، عابرة وليست مبنية وبالتالي مجردة من المستقبل
والأفق. ربما تسبب في ذلك واقع الرواية الذي طغت عليه أجواء الخوف وترقب الناس
للمجهول وفقدهم للأمل الذي تبنى عليه العلاقات المتجذرة والدائمة.
أردت أن أقول من خلال هذا أن مها خلال كل
الحكاية لم تكن إيجابية تجاه الحب لا في حبها الأول مع زميلها في الجامعة ولا حتى
مع ابن عمتها يوسف الذي في الحقيقة لم تحبه وإنما كما قال الكاتب نفسه إنما جمع
بينهما سقف واحد ومكان مغلق انفجرت فيه الغرائز البشرية على مداها. وحتى عندما ذكر
الكاتب ما جرى بينهما بعد ذلك إنما استعمل كلمة "ممارسة الجنس" ووصف لنا
كيف أنها جرت في أماكن مختلفة من البيت بما في ذلك المطبخ، ولعل سبب عدم الاستقرار
ذاك هو الخوف من الرتابة مع الوعي أو اللاوعي بأحقيتها على واقعهما الطارئ. وفوق
ذلك كله وبعد تلك "الممارسة للجنس" يفترق الاثنان رغم أنهما وحيدين في
البيت لينام كل واحد منهما منعزلا في غرفة. وقد نجحت هذه الصورة المستهلكة والسينمائية
في التعبير عن غياب الحب وغربة الزوجين عن بعضهما.
وحتى الكلمات التي قالها يوسف في تمجيد
جمال ابنة خاله لم تكن حديثا في الحب وإنما تمهيدا وتعبيرا عن تحرك الغرائز في
النفوس والأجساد ضمن أجواء مناسبة تماما لذلك، مثل الانفراد والخوف وفقد الأمل.
شاب وشابة في ريعان الشباب ينفردان ببعضهما ضمن هذه الأجواء لا يستقر لهما قرار
حتى يتعانقا.
إذن لم تكن مها إيجابية أبدا على سبيل الحب،
وذلك خلال الرواية كلها، وربما بسبب ذلك اتهمت أخلاقيا بالمثلية عندما شاركت تلك
الصديقة ذات الشقة.
ومع ذلك لم تخل حياة مها خلال الرواية من
صور جميلة وشيقة جعلتها تتعلق عاطفيا بشيء، ولعل أبهاها ما تحقق كما قلنا في فترة
القاهرة حيث امتلأت أجواء الرواية بالشخوص والأحداث الشعورية والانسانية والصراعات
النفسية والاجتماعية والسياسية. وبدا في هذه الفترة من الرواية أن كل شيء في مكانه
حتى ما يمر عليه الكاتب لماما ومن خلال بضع الأسطر: العازف العراقي، السياسيون
الفاسدون وحتى المهرب المصري الشاب الذي ظهر في الأخير أنه هارب بدوره.
وربما في فترة القاهرة وحدها أحسسنا، كما
ألمحت، أن شخصية مها تنجذب إلى شيء وتتعلق بمكان وحياة حقيقية، وحتى عندما خافت
وأرادت أن تهرب وتبتعد عن القاهرة التي أحبتها فإن خوفها جاء جميلا وطبيعيا
وحقيقيا، وكان هروبها منه سهلا ميسرا نسيت في خضمه أن تودع القاهرة بما يليق بحبها
وتعلقها بها.
لقد ساعدنا كل هذا على أن نعيش مع مها
إنسانيتها ومشاعرها وحتى عقلها، وهو ما كان نادرا نوعا ما خلال باقي الرواية.
وحتى عندما كانت في بيت عمتها تستكشف
الأحداث وتتابعها عن كثف ثم بدأت تكتب عنها، فإننا كنا نشعر بها رغم ذلك غائبة، أو
أن إطار الحياة وأجوائها كان غير موجود. ربما لأنها كانت غارقة مثل الآخرين في
أجواء الدهشة بالمفاجأة والخوف الغامض والشعور الدفين بالإحباط حتى قبل البدء في
العمل.
العمة وحدها كانت فوق ذلك، بدا أنها وحدها
كانت تعرف ماذا تريد، وشعرنا معها وحدها وبشكل مرهف وعميق أنها ارتبطت تماما
بالثائرين والشهداء وعوائلهم من جيرانها، وقد شعرت بالعار حين رأت ابنها على
التلفاز وقد استسلم كما تظن.
ولعل هذا الفراغ في المشاعر إنما يرجع إلى
الروح الصحفية في الكتابة، فهو أسلوب يعبر عن الأحداث في حصولها الآني ومن خلال
تتابعها وتلاحقها وليس من خلال الشخوص الذين يتحركون فيها وهم يحملون خلفياتهم
وحيواتهم وذكرياتهم أينما ذهبوا، وهي أكثر عمقا وأكثر جدارة بالتوقف عندها.
فمثلا شخصية لبنى أخت مها، فرغم أصالتها وفرادتها
فإننا لا نعرف عنها شيئا، رامي أيضا وعلى الرغم من الدور الرهيب الذي اضطلع به
خلال جزء مهم من الحكاية إلا إنه بقي شخصية مجهولة لدينا، ربما كانت تلك هي رغبة
الكاتب لأن رامي ليس إلا شخصيات متعددة لم يرى الكاتب فائدة من ذكرهم جميعا. على
كل حال أرى أن كل هذه الشخوص الحاضرة الغائبة تجعلنا نحس ببعض الفراغ خلال الرواية.
وقبل أن أكمل أحب أن أشير إلى بعض الفصول
أو المقاطع الجميلة الزاخرة بالحياة في الرواية، ولعل أهمها تصوير الكاتب للزمن
الذي عاشته مها في زنزانتها الضيقة التي لم نحس بها ضيقة رغم وصفها إياها بذلك،
فقد كان لها فيها جنود من نواة الزيتون يأتمرون بأمرها، كما جعلت نفسها في إحدى
المرات تتخيل أن في الزنزانة التي تلي زنزانتها يقبع الطبيب الثائر الذي سبق
وعالجها.
أما أهم ما ساعدنا على الوعي بحقيقة الوقت في
هذه الفترة التي قضتها مها بالزنزانة فهو ذلك الولع المستجد لديها بعد وإحصاء كل
شيء: "حبات الزيتون، ما يتساقط من حبات الرز، حتى أنها بدأت بعد شعر رأسها
لكنها كانت تخطئ كثيرا لذلك توقفت، وبدأت تعد المرات التي تفتح فيها الأبواب
وتغلق، المرات التي يتجشأ فيها ويبصق فيها، بالأمس قال عشر مرات كلمة كلب، قال
ثلاث مرات كلمة عاهرة، قال أيضا المنفردة خمسة مرتين، المنفردة تسعة مرة واحدة،
أول أمس كان يتحدث كثيرا عن المنفردة ثلاثة عشر، قالها أكثر من عشرين مرة..."
إن زنزانة مها هي الحيز الوحيد الذي كان
مسكونا خلال الرواية، فحتى البيت الذي سكنته في القاهرة وشاركتها فيه بعد ذلك صديقتها
حياة فإن الكاتب لم يحوله إلى مكان حي كما فعل مع الحيز "المنفردة
ثلاثة".
بالنسبة لأسلوب الرواية ثانية، استفتح الكاتب
نصه بتصويره للأحداث وتقديمه للشخوص عنيفا أخلاقيا واجتماعيا إلا أنه لم يتمادى في
ذلك وإنما استقر خلال أغلب فصول الرواية عند ذلك السقف لم يتجاوزه وربما زاد على
ذلك أسلوبيا ليصبح أقل عنفا وجرأة وخاصة تجاه السياسيين بما فيهم شخوص ينتمون إلى
الحكومة وعلى رأسهم الرئيس، الذي رغم عدم ذكره بالاسم لم يكن الكاتب عنيفا في هجائه
كما كان مع والده وذلك ضمن تلك الصورة الوحيدة الناقدة والمتهمة والمنفرة التي
جاءت على لسان جاد وضمن ذكريات شبابه. أما الرئيس وزوجته "الشابة" فقد
صورهما الكاتب غير منعزلين تماما عن الناس حيث يجتمعان ضمن جو حميمي نسبيا من خلال
جلساتهما الخاصة مع بعض العوائل الدمشقية المرموقة، كما وصف "الرئيس"
بأنه يحب النكات. ربما يمكننا أن نطلق على هذا الأسلوب ما يسمى بالفرنسية "Le politiquement correcte" أي المقبول سياسيا أو عرفيا.
أما النهاية، أقصد نهاية الرواية، فقد جاءت مصطنعة إلى حد ما، فلماذا ذلك
اللقاء في باريس ولماذا سنة 2030 كي تختتم بها القصة ولماذا ذلك الرجوع الباهت إلى
مدينة دمشق وبتلك الطريقة المستهلكة والجامدة؟ كلها أسئلة تخامرنا تلقائيا ونحن في
السطور الأخيرة من نص ثائر الزعزوع المقنع في الجملة.
وفي كل الأحوال تميزت الرواية عموما بأسلوب واضح ومباشر وبلغة تقريرية سلسة
ومفهومة ومعبرة لا تقطع على القارئ حبل قراءته واسترساله فيها.
طريقة اخراج الكتاب وألوانه وحسن صناعته سهلت علي تصفح الكتاب وقراءة
الرواية في أقل من يومين وذلك رغم انشغالي، ولقد فكرت أن أقرأها ثانية قبل أن أكتب
لها هذه الورقة ولكنني خفت ضيق الوقت وتجرأت على الكتابة عن شيء لم أشاهده أو
أقرأه إلا مرة واحدة فأرجو السماح على التقصير.
تعليقات
إرسال تعليق