بقلم: محسن الهذيلي
1- أمام بيت مبني حسب الطراز
المعماري التقليدي ويحيط به بستان من الأشجار المثمرة/ خارجي/ نهار
الأم (في
الثلاثينات)، البنت: فاطمة (11 سنة)، الابن: عبد الرحمن (أقل من سنة)
تجلس الأم وابنيها على بساط ملون فرش تحت
شجرة مثمرة ظليلة. وهي تمسك بابنها وتتطلع إلى بعض العصافير تقفز وتغني خلال أغصان
الشجرة. وكانت الأم تداري، بذلك، دموعها عن ابنتها وتمسحها من حين لآخر بمنديل
أبيض. وطرز في أحد زوايا المنديل في حجم صغير كلمة: الحمد لله.
الابنة
فاطمة:
-
(تتطلع إلى أمها وهي تحاول إخفاء دموعها) منذ جئنا إلى هنا يا أمي
وأنت تبكين! ألم تقولي إننا جئنا كي نرتاح ونستمتع بالطبيعة؟! كنا في الماضي عندما
نجيئ إلى هنا تصبحين سعيدة جدا... أمي، أريد أن أسألك عن أبي، لماذا لم يأتي معنا؟!
كان من عادته أن يجيئ حتى عندما تكونان متخاصمين...
الأم:
-
(مقاطعة) أنا وأبوك لا نتخاصم يا بنيتي فاطمة، إنما كنا نختلف في بعض
المسائل، وهذا طبيعي، فنحن لسنا شخصا واحدا وإنما اثنان ولكل منا أفكاره وآراءه
ونظرته إلى بعض المسائل في الحياة...
الابنة
فاطمة:
-
في السنة الفارطة قبل أن تنجبي أخي عبد الرحمن، سألتني معلمة
الاجتماعيات لماذا لم تنجب لك أمك أخا أو أختا، ولكن أستاذة العربية لم تنتظر حتى
أجيبها وهمست لأستاذة الاجتماعيات قائلة إنك وأبي في خصام وربما تطلقان. كانت
أستاذة العربية تظن أني لم أسمعها ولكنني سمعتها. لذا سألتها: ما علاقة طلاق أبي
وأمي بولادة أخ لي أو أخت؟! ولكن أستاذة العربية لم تجبني على سؤالي...
الأم:
-
(لم تستطع إخفاء دموعها التي انهمرت غزيرة وبدأت تمسحها بمنديلها
الأبيض المكتوب عليه في حجم صغير الحمد لله) الأزواج عندما يتزوجون يا بنيتي فذلك
لإنجاب الأبناء. والأبناء مثلك ومثل أخيك عبد الرحمن، هم سعادة أي بيت، وعندما لا
يأتون معناه أن البيت غير سعيد.
الابنة:
-
ألم يكن كافيا لبيتنا أن يسعد بوجودي وحدي؟ ألست إبنتكما؟
الأم:
-
كان كافيا بالطبع، ولكننا قوم نؤمن بالحوزة الكبيرة، وأنت يا فاطمة،
ألا تشعرين أنك أصبحت أسعد عندما أنجبت لك أخاك عبد الرحمن؟
الابنة:
-
فعلا يا أمي، وقبله كنت دائما أحلم بأن تكون لي أخت ألعب معها، أخي عبد
الرحمن صغير الآن ورغم ذلك كثيرا ما ألعب معه عندما تسمحين لي بذلك... وأبي فرح كثيرا
عندما أنجبت عبد الرحمن، بل إنه فرح حتى قبل ذلك عندما حملت به وأصبحت بطنك كبيرة،
لذا لم أفهم لماذا لم يأتي معنا؟ ألم يكن يحب المجيئ دائما إلى هذا البستان؟
الأم:
-
ولكن أبيك مشغول هذه الأيام ولا يستطيع أن يجيء...
الابنة:
-
ولماذا جئنا إذن إن كان أبي لا يستطيع؟ أحب هذا البستان كثيرا لأنني
أحب أن أراكما فيه. فأنتما حين تجيآن هنا تتصالحان دائما وتحبان بعضكما...
الأم:
-
(وقد فاجأها وعي ابنتها وكلامها) من أين تعلمت هذا الكلام يا فاطمة؟!
البنت:
-
لا أحد علمنيه يا أمي، لقد استنتجته من نفسي، فأنا لم أعد صغيرة،
كنتما عندما تكونان في بيتنا متخاصمين، عندما تأتيان إلى هنا تسعدان ولا تعودان
تصرخان.
الأم:
-
لأن هذا المكان جميل يا بنيتي، وكل ما فيه سعيد: الشمس والظلال
والأشجار والعصافير...
الابنة:
-
وكذلك الفراش والنحل...
الأم:
-
لذا فإن أجواء السعادة هنا تفرض علينا نفسها فنسعد بدورنا.
الابنة:
-
لماذا لم يأتي أبي معنا إذن؟!
الأم:
-
لأنه مشغول جدا كما قلت لك...
الابنة:
-
ولماذا لم نبق معه كما هي عادتنا؟! ولماذا طال بعدنا عن أبي؟!
الأم:
-
(حزينة) إنه بسبب كورونا...
الابنة:
-
هل بسبب أنه يعالج الناس منها؟
الأم:
-
ولأنه يخاف أن يحمل إلينا الفيروس دون أن يدري، وبينما أصبحت أنت
امرأة قوية يمكنك أن تقاومي كورونا وتهزميها فإن أخاك عبد الرحمن لا زال ضعيفا
أمامها ويمكنها أن تفتك به...
الابنة:
-
وما معنى تفتك به؟!
الأم:
-
أي تسبب له ضررا بليغا، وأبوك وأنت وأنا لا نحب الضرر لعبد الرحمن،
أليس كذلك؟ لذا قررنا أن نبتعد عن والدك قليلا حتى يمر المرض...
الابنة:
-
وهل سيمر هذا المرض يا أمي؟
الأم:
-
طبعا سيمر.
الابنة:
-
وأعود إلى المدرسة؟
الأم:
-
بالتأكيد... وهل افتقدت المدرسة يا فاطمة؟
الابنة:
-
نعم، ولكن ليس كل المدرسة، افتقدت بعض الأساتذة وليس كلهم وبعض
الأصدقاء وليس جميعهم. هل تعرفين يا أمي أن أستاذة العربية تسألني دائما عنك ولماذا
لم تعودي تعملين في عيادة والدي؟
الأم:
-
ربما لأنني كنت أعالجها، وبماذا تجيبينها؟
الابنة:
-
أقول لها إن أمي أنجبت أخي عبد الرحمن وهي التي ترضعه وتعتني به، لذا
هي لا تستطيع أن تغادر بيتنا وتترك أخي وحده. لأن أخي لا يحب أن يبقى وحده، وهو
دائما يشرب حليب أمي. وقلت لها أيضا إن أمي وهي تغير ملابس أخي عبد الرحمن تغني له
كل الأغاني الجميلة. وقلت لها أيضا إنك كنت تفعلين الشيء نفسه معي عندما كنت رضيعة.
لذا جئت محبة للموسيقى.
الأم:
-
وبماذا أجابتك؟
الابنة:
-
سألتني إن كنت حقا متفوقة في الموسيقى فقلت لها إنني الأولى في مادة
الموسيقى...
الأم:
-
وماذا قالت؟
الابنة:
-
لقد مسحت على رأسي وقالت: أنت الأولى يا فاطمة في كل المواد ما عدى
العربية. قلت لها: ربما لأن أستاذة العربية تترك هاتفها الجوال مفتوحا على مكتبها
ولا تتوقف عن التطلع إليه طوال الحصة... وأظن أن ذلك يشوشني ولا يجعلني أركز على
الدرس، وعندما أرجع إلى البيت أجد أني لم أفهم درس العربية، وتقوم أمي بإعادة
تلقيني إياه، ولا تنسى أن تذكرني دائما بأن أهم وقت للتعلم هو الوقت الذي نقضيه في
القسم مع الأستاذ أو الأستاذة.
الأم:
-
وماذا قالت حينئذ؟
الابنة:
-
كانت معها أستاذة الإسلامية، نظرت إليها ثم وعدتني بأن تبقي جوالها في
المستقبل في حقيبتها ولا تخرجه أبدا في الصف.
الأم:
-
وهل فعلت؟
الابنة:
-
ألم تلاحظي يا أمي أني تحسنت في العربية؟ لقد أصبحت أكثر انتباها في
القسم، فهي لم تعد مشغولة بجوالها طوال الوقت، ويبدو أنها توقفت حتى عن الاتيان به
إلى المدرسة. لأنني لم أعد أراها تتكلم به في وقت الفسحة. لقد أصبحت مثلك يا أمي
تعيش بدون جوال... ولكن عندي سؤال يا أمي...
الأم:
-
(مبتسمة وسعيدة بابنتها) اسألي أي بنيتي فاطمة...
الابنة:
-
لماذا لم تعودي تستعملين جوالك حتى في البيت؟ ألم تعودي تريدين من أبي
أن يكلمك؟
الأم:
-
أبدا يا بنيتي أنا وأبوك أصبحنا قريبين جدا من بعضنا منذ أنجبت أخوك
عبد الرحمن، ألم تلاحظي ذلك؟
الابنة:
-
ألم تكونا قريبين من بعضكما عندما أنجبتماني؟!
الأم:
-
عندما جئت أنت إلى الدنيا جعلتنا أسعد الناس، فقد غمرتنا سعادة لا
توصف، أتَذَكَّرُ أنك عندما ولدت جئنا بك مع كل عائلة أبيك وعائلتي إلى هنا وجلسنا
تحت هذه الشجرة بالذات واحتفلنا. أتدرين لماذا أحب كثيرا هذه الشجرة يا فاطمة؟
لأني تربيت تحتها ولأنني أيضا فرحت تحتها فرحة لم أفرحها في حياتي وهي فرحتي بك.
ولقد كان أبوك سعيدا جدا بولادتك وقد أهداني أجمل هدية في حياتي هذا العقد (وأخرجت
من تحت حجابها عقدا جميلا وضعته في جيد ابنتها)
الابنة:
-
(سعيدة وهي تتلمس العقد على صدرها) إنه جميل جدا يا أمي، وماذا أهداك
أبي عندما ولد أخي عبد الرحمن...؟
الأم:
-
(لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء، لذلك لم تقدر على الكلام)
الابنة:
-
لماذا أنت تبكين يا أمي؟! ألم يهدك شيئا؟!
الأم:
-
بلى يا بنيتي، بلى، لقد أهداني شيئا عزيزا جدا على نفسي...
الابنة:
-
وما ذاك يا أمي؟
الأم:
-
(مشيرة إلى الأرض تحتها) هذا البستان يا بنيتي، لقد اشتراه من إخوتي وباقي
الورثة...
الابنة:
-
ألم يعد هذا البستان بستان جدي؟!
الأم:
-
(وهي تمسح دموعها) لا، لقد أمسى بستان أبيك...
الابنة:
-
ألم تقولي إنه أهداك إياه؟ ألم يصبح بستانك؟! (تضع يدها على العقد على
صدرها) وهذا العقد، أليس عقدك؟!
الأم:
-
نعم، العقد لي والبستان كتبه أبوك باسمي...
الابنة:
-
وما معنى كتبه باسمك يا أمي؟
الأم:
-
معناه أنه رجل أصيل ولم ينس السنوات العشرة التي قضيتها معه في عيادته
رغم أننا كنا غير متفقين...
الابنة:
-
أما الآن، فأنتما متفقين، أليس كذلك؟
الأم:
-
(وهي تمسح دموعها) متفقين جدا...
الابنة:
-
ولكنني لم أفهم يا أمي كلمة أصيل، ما معناها؟
الأم:
-
يا بنيتي عندما يفتح أبوك عيادته مجانا لمرضى كورونا ويعالجهم بنفسه
مع كل مساعديه فهذا يعتبر أصالة، وإنسان كهذا يسمى رجل أصيل. أي إنسان لم تغيره
الحياة وتحوله إلى حيوان يعيش من احتياج الناس وضعفهم (من شدة البكاء تتوقف الأم
عن الحديث)
الابنة:
-
لماذا تبكين يا أمي؟ أليس هذا شيء حسن؟ أن يكون أبي رجلا أصيلا ويحب
مساعدة الناس...
الأم:
-
نعم إنه شيء حسن جدا يا بنيتي، ولكنني سمعت أن بعض مساعديه قد أصيب
بكورونا وأخاف أن يكون هو أيضا قد أصيب...
الابنة:
-
وماذا يمكن أن يحدث يا أمي إن أصيب أبي، هل تذهبين لعلاجه؟
الأم:
-
هو يريدنا أن نبقى هنا حتى يجيئنا بنفسه ليأخذنا إلى البيت، وبقاءنا
هنا يا بنيتي هو من حماية والدك، لأنه إن بقي كل إنسان في بيته لا يغادره إلا للضرورة
فلن يمرض الناس ولن يذهب إلى عيادة والدك أحد أو أن يكون عددهم صغيرا. وعندما يمر
كورونا سوف نرجع إلى حياتنا السعيدة بإذن الله...
الابنة:
-
وهل ستبتعد عنا كورونا ويجيء أبي ليأخذنا إلى بيتنا؟ هل سيحدث ذلك
فعلا؟
الأم:
-
(وهي تمسح دموعها) نعم سيحدث بإذن الله.
الابنة:
-
فلماذا الدموع إذن يا أمي؟!
الأم:
-
اعتبريها دموع سعادة...
الابنة:
-
أمي أنت حين تحزنين تبكين وحين تسعدين تبكين...!
الأم:
-
أي بنيتي فاطمة، إعلمي أن الإنسان خلق ضعيفا وهو يشعر بالضعف سواء كان
في الخير أم في الشر.
الابنة:
-
وكيف لا يكون هذا الانسان ضعيفا يا أمي؟
الأم:
-
فقط عندما يكون مع الله...
الابنة:
-
أمي وكيف نكون مع الله؟
الأم:
-
إن كورونا هذا الفيروس الصغير جدا هو بصدد تعليمنا الآن كيف نكون مع
الله وحده...
(تمت)
© جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com
تعليقات
إرسال تعليق