حكاية قصيرة: الجد وحفيده والموسيقى






بقلم: محسن الهذيلي

بدأ الحفيد ممارسة الموسيقى منذ التحاقه بالمدرسة الابتدائية. وكانت بوابته على الموسيقى آلة الغيثارة الجميلة. ولكنه بعد ذلك تركها وانتقل للعزف على كل الآلات الحديثة. ثم بات غرامه ومتعته في لعب موسيقى "الروك". حتى إنه أنشأ مع بعض أقرانه من الشباب فرقة موسيقية بدأت تشق طريقها إلى النجاح والشهرة.

لم يعجب هذ الاختيار الجد الذي كان موسيقيا. فبات يمازح حفيده ويقول له:

- إنني لا أرى أن هذه التي تمارسها  موسيقى.

لا يعلق الحفيد عادة وإنما يتأمل جده لحظة  ثم ينصرف على عجل.

في إحدى الأيام قال الجد لحفيده:

- أريد أن أسمعك يوما موسيقى حقيقية.

رفع الحفيد عن أذنيه سماعات الرأس واستفسر عما قيل.

- قلت إني أريد أن أعرفك يوما على حقيقة الموسيقى..

- حقيقة الموسيقى؟!!! وهل هناك حقيقة؟! الموسيقى مثلها كمثل كل شيء.. نسبية. لا توجد حقيقة ولا أشياء حقيقية. ثم إنني لاحظت أنك لم تعد تذهب إلى حفلات الموسيقى. أصبحت تخير عليها الهيام على وجهك في الغابات والبراري!

- ولماذا لا تأتي معي يوما إلى الغابة. ربما أسمعك هناك موسيقى تعكس شيئا من الحقيقة. ألا تريد أن تتعرف على الوجه الموسيقي للحقيقة؟

- أنت تعرف يا جدي أنني أصبحت مشغولا جدا وليس لي وقت لحديث الحقيقة وأوجهها الوهمية حتى وإن كانت موسيقية.

- أريدك أن تأتي معي ليوم وليلة. سوف نخيم وننام في الغابة.

- ننام في الغابة!؟ هذا شيء مغر حقا. سآتي معك إذن، وسوف أحاول أن أستمع لموسيقاك الحقيقية..

لم يجب الجد على قهقهة حفيده، فهي ما غلب على جوابه المتهكم. 

وعندما جاءت الفرصة وذهب الجد وحفيده إلى الغابة، بدأ هذا الأخير يسأل، وذلك منذ بلغا مشارف الغابة، عن الموسيقى الحقيقية التي حدثه عنها جده ومتى سيمكنهما سماعها. 

ما كان يقصده الجد من موسيقى، ليس سوى أصوات الطبيعة عندما تمتزج وتتناغم ضمن غابة طبيعية لم تشوهها أو تلوثها أصوات المدنية. وهما يتوغلان خلال الغابة باحثين عن مكان يحطان عنده الرحال وينصبان فيه خيمتهما، كان الجد يسأل من حين لآخر حفيده:

- هل تسمع شيئا؟

- لا شيء.. لا شيء معين يا جدي..

- سوف ننصب خيمتنا ونأكل شيئا مما جئنا به من البيت ثم أحدثك.

وجد الحفيد متعة كبيرة في أكل ما جاءا به من البيت، فسأل جده قائلا:

- جدي لماذا أجد أن الطعام هنا هو ألذ منه عندما يكون في البيت أو في المطعم؟!

ابتسم الجد مطمئنا وقال:

- ربما هو كذلك بسبب الموسيقى!

- على ذكر الموسيقى يا جدي، أين هي تلك الموسيقى التي ستسمعنيها؟ هل جئت معك بالناي؟

- بما أنك استطعمت الطعام واستمتعت به لأننا هنا، أعتقد أن الموسيقى سوف لن تتأخر ولن نحتاج حتى إلى الناي..

عندما هبط الليل نام الجد وبقي الحفيد منتبها. ورغم ذلك فقد واصل حديثه مع جده قائلا:

- جدي.. ألا تلاحظ أنه عندما هبط الليل تغيرت أصوات الطبيعة؟! إننا لا نجد هذا في بيتنا بالمدينة. ضجيج السيارات والقطار لا يتركنا نفرق بين أصوات النهار وأصوات الليل إلا قليلا.

في الصباح عندما استيقظ الجد باكرا، وجد حفيده منتبها، فسأله:

- ألم تنم؟!

- بل نمت ولكن أيقظني صوت الصباح.

- وهل أصبح للصباح صوت يا بني؟!

- نعم يا جدي! لقد كنت مخطئا البارحة عندما ظننت أن للغابة صوتا في النهار وآخر في الليل. لقد اكتشفت أن لها أيضا صوتا في الصباح الباكر وهو مختلف عنه في الضحى وفي الزوال وفي المساء.

- بعد ذلك سوف تكتشف أن أصوات الطبيعة تتبدل كل ساعة.

نظر الحفيد متأملا ما حوله ومرهفا سمعه وقال:

- ألا ترى يا جدي أن هذه الأصوات المتجددة هي عبارة عن سنفونية موسيقية؟!

- وماذا عن موسيقى "الروك"؟

- لقد أعدت اكتشافها هنا هي الأخرى. إنه ليس لها أي دور تلعبه في مكان مثل هذا.

- كيف؟!

- لا يوجد شيء هنا نحب أن نغطي عليه. كل صوت في هذه الغابة موسيقى. أما في المدينة فموسيقى "الروك" لها دور وظيفي، أن تنسينا الضجيج والضوضاء. ضوضاء السيارات والقطار وباقي الآلات التي لا تنقضي. 

- ولها وظيفة أخرى أيضا وهي أن تسكت الأصوات الناقدة القادمة من داخلنا أو جعلها غير مسموعة..

- جدي أعتقد أني وجدت المكان الذي سوف أقضي فيه حياتي..

- أظن أن ذلك سيصبح ممكنا قريبا جدا، لأن الانسان سوف يقرر في القادم من أيامه أن يعود للعيش في أحضان الطبيعة فارا من مدننا وما صنعته من ملوثات باتت تحتاج إلى كثير من "التغطية". ولكن المشكلة بالنسبة إليك هي فرقتك لموسيقى "الروك" ماذا ستفعل بها؟!

ابتسم الحفيد لجده في حب وقال له:

- موسيقى؟!!! هل تظن أن ذلك الضجيج موسيقى؟!!! ما من شيء نستعمله للتغطية على ما يزعجنا إلا وهو إزعاج مثله وليس موسيقى..

©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com

 © حقوق التصوير محفوظة للمهندسة مودة سيف الصوافي

mawada992@gmail.com 

تعليقات