عمارة القلب عمارة الانفتاح 11

 




بقلم: محسن الهذيلي

 

لو نظرنا في العمارة الحديثة أو حتى ما أطلق عليه منها ما بعد الحداثة والتفكيكية فإننا سنرى أنها كلها تتحرك فيما حدده لها "لوكوربيزيي" ثم من تتلمذ عليه ممن جعلوا العمارة أو المبنى مجرد آلة أو شيئا وظيفيا. وذلك بغض النظر عن الأسلوب والمدرسة وحتى المعماري نفسه. فالمسألة ليست في الحقيقة مسألة أفراد ونبوغهم وإبداعيتهم كما يصور لنا ذلك بعض الناقدين في أحضان الحداثة وإنما هي مسألة ثقافة ونظرة إلى الوجود والحياة تقوم على أساس مادي صرف.

فالإنسان مع الحداثة ومع بُعده عن الله ورسالاته أفرغ من مضمونه الكوني والرسالي وبات شيئا أو حاجات مادية تلبى بمضامين مادية صرفة، وضمن هذه النظرة تكون العمارة مجرد آلة مادية تلبي له تلك الحاجات.

والنظرة النقدية لعمارة الحداثة عموما يمكن لنا التعرف عليها بالاطلاع على بحوث وأعمال كل من "كريستوفر ألكسندر" وتلميذه "نيكوس سالينغاروس". كما يمكننا مراجعة ما كتبه "ليون كريير" وغيره.

ولكن لدي طريقة أخرى يمكنها أن تكون أسهل على الفهم لمن لا يهتمون للقضايا الفكرية والفلسفية في العمارة، وذلك سواء كانوا من المعماريين أو غيرهم من الناس العاديين، وهي أن يذهبوا إلى المجلات أو المواقع المختصة بالعمارة فيروا الهيأة التي تقدم عليها المشاريع المعمارية.

إنها تقدم مجردة ومختصرة في صور وألوان وظلال مع غياب لأي ذكر للإنسان وثقافته ومشاعره وعقائده وتصوره للحياة والوجود وتفاعله المصيري معهما.

بهذا الأسلوب في طرح العمارة وتقديمها، أصبحت المسألة الفلسفية والروحية غير ذات معنى في العمارة أو إنها أمست غير أساسية. وحتى عندما تقوم النصوص المقتضبة التي تقدم بها تلك المشاريع بالحديث عن "فلسفة المشروع" فإن كلمة الفلسفة إنما تأتي بمعنى فلسفة الحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية وهي فلسفات أو فلسفة واحدة في الحقيقة، سعت دائما إلى تفريغ العمارة والحياة من كل مضمون إنساني وجوهري أي رباني.

وفي ظل هذه الفلسفة المادية أصبح الإنسان وحضوره في العمارة كما تعرضه لنا هذه المجلات المعمارية مجرد صورة وشيئا يؤثث الحيز، أي إن وجوده ضمن الصورة لا يختلف عن وجود باقي أثاث الحيز.

وأحيانا ولعبقرية لدى المصور يغيب هذا الإنسان من الصورة تماما ليترك مكانه لكلبه أو قطته. لأن المصور رأى حسب عبقريته التصويرية تلك أن غيابه، أي الإنسان، وحضور حيوانه المستأنس مكانه سوف يعطي حيوية أكبر للصورة وبالتالي للعمارة المصورة.

وفي كل الأحوال فإن الحيوان المستأنس يشي بالضرورة بوجود الإنسان الذي لا نراه وهو خير منه حضورا لأنه لابد أن يكون أكثر منه حيوية وعفوية وأقل تشويشا على الحيز المؤثث في إتقان لا يحتاج فيه إلى الإنسان.

وأحيانا نجد أن هذه "العبقرية" تتبلور لدى مصورين آخرين بشكل مختلف وتتمخض عن فكرة أخرى وهي ألا يزيد وجود الإنسان في صورة العمارة عن أثره، مجرد أثره. بمعنى أن نستوحي وجوده من خلال وسادة هنا في غير محلها على الفراش أو أخرى هناك سقطت على الأرض كما اتفق.

كما يمكننا أن نرى "أثر" الإنسان في الحيز من خلال وجود كأس نصفه ملآن والقارورة بجانبه على الطاولة، ويصبح بذلك حضور الإنسان حضورا تجريديا مثاليا خياليا.

أحيانا نرى سيارته وحدها، وتكون هذه السيارة، التي تتميز بأنها عتيقة أو فارهة أو رياضية، هي من يخبرنا عن وجوده، أي وجود إنسان يكفي لقطعة من المتاع الباهظة الثمن أن تحدثنا عن وجوده وحياته المادية السطحية..

وهذه الصورة التي تقدم بها العمارة في كل تلك المجلات تعبر بشكل واضح عن الحقيقة "الصورية" أو التجريدية لهذه العمارة التي صممت لغير الإنسان أو هي صممت لإنسان بدون حضور حقيقي أو فعلي.

هذا بالنسبة للإنسان أم بالنسبة للطبيعة التي هي أجمل ما في العمارة وهي روحها ومتنفسها فإن حضورها بدأ ينقص باطراد من هذه المشاريع وربما اختفى تماما في المشاريع "الحدث" لمعماريين "نبغاء" و"مبدعون جدا".

وهذه الطبيعة وحتى عندما يكتب لها الحضور أحيانا في أعمال بعض المعماريين الذين أغلبهم صغارا فإنها تحضر كصورة وكلون وليس كحياة وممارسة وضمن علاقة متأصلة معها.

ويحدث كل هذا في ظل فلسفة تفقيرية وحيدة ونظرة يتيمة للوجود والحياة هي نظرة مادية سطحية ليس فيها أي عمق يتجاوز الصورة واللون والظلال والأشكال، إلى آخره من الأشياء المرئية غير ذات العمق أو الخلفية الفكرية والروحية التي تمثل الإنسان كما أبدعه وكونه خالقه.

لذا سنتحدث في المقالات التي تلي، وكما وعدنا ضمنيا في المقال العاشر، عن الصورة المختلفة التي يقدمها القرآن للعمارة المناسبة لذلك الإنسان الرباني.

(يتبع)

©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com
©حقوق التصوير محفوظة للمصور نبيل الرواحي
nalrawahi@hotmail.com

تعليقات