عمارة القلب عمارة الانفتاح 12: الجنة في حياتنا..

 


بقلم: محسن الهذيلي

هناك حدث مهم جرى في السماء ولنا أن نتعلم منه لعمارتنا التي نصممها ونعيشها على الأرض. وهي أن إرادة الله كانت أن يمر الإنسان أول ما خُلِق، ممثلا في أبوينا آدم وحواء، بالجنة. وهذا القرار الرباني كان ضروريا من أجمل أن يتكامل الإنسان في تكوينه. ونستوحي ذلك من القرآن الكريم نفسه عندما يخبرنا، وذلك قبل أن يعصي آدم وحواء ربهما، أن هذا الإنسان سوف لن يبقى في الجنة وإنما سينزل إلى الأرض ليعيش فيها ما أراد الله له أن يعيش.

هذا ما يخبرنا به القرآن الكريم بوضوح تام. فالجنة بتلك المواصفات الواضحة التي أطلعنا عليها القرآن كانت أولى محطات الإنسان، ذلك المخلوق الجديد. ففيها بدأت تجربته الأولى مع الحياة التطبيقية، وفيها بدأت أولى اختباراته ومجابهاته لعالمي الحق والباطل. وفيها اكتشف فجأة أن الشيطان الرجيم واقف له بالمرصاد من أجل الإغواء والتضليل.

ولأن آدم وحواء رضخا إلى وسواسه، فقد فشلا في أول اختبار لهما أمام أمر الله وعصياه. والسبب أنهما كانا على الفطرة السوية فأخطئا التقدير حيث لم يكونا يعرفان عن الباطل شيئا وأن العالم الذي باتا يعيشان فيه تسكنه مخلوقات في مثل الشيطان يكذب ويخدع ويضل.

الذي يهمنا في هذه القصة التي جرت أحداثها بعيدا جدا عنا، أي في السماء وفي الجنة، أن هذه الأخيرة كانت أولى محطات حياة الإنسان. لأن إرادة الله قضت بذلك، وأيضا لأن الإنسان الذي خلقه الله إنما أعده ليعيش في الجنة وليس في غيرها من الأماكن. وعندما يخرجه منها فمعناه أنه يعاقبه، فهو يعلم سبحانه أن في إخراج آدم وحواء من الجنة تعذيب لهما لأنهما لابد أن يشعرا خارجها بالغربة والوحشة والتمزق.

والشيطان الرجيم كان يعرف ذلك جيدا، لذا عمل على أن يُطْرَد آدمُ وحواء من الجنة. وهو يدري أيضا أنهما إن خرجا من الجنة فإن تكامل فطرتهما معها، والذي سيفقدانه بخروجهما منها، سوف يضعف من علاقتهما بالله. ويكونان أبعد عن التوازن وأقرب إلى نقيضه وهو الضلال والبعد عن الله، ما يسهل عليه إغواءهما في كل مرة.

هذا الدرس الذي يلقننا إياه القرآن الكريم مهم جدا بالنسبة لفهم العمارة المتوازنة، وهو يمنحنا بعض الأدوات النقدية لحسن اختيار العمارة التي نعيشها ونبنيها اليوم وفي كل يوم. وهي أن تكون هذه العمارة ضمن ما خلقه الله على الأرض مما يشبه الجنة.

وأن تعيش في كنف خضرة الطبيعة وأشجارها وثمارها وأزهارها ومياهها الجارية، فهذا أمر مصيري بالنسبة لتكامل الإنسان وفيه أسباب سعادته وكذلك نجاحه في اختباره الوجودي مع الله.

والشيطان عندما أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة كان على علم بكل هذا. لذا فإنه لم يتوقف حتى الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، عن العمل من أجل إخراج الإنسان من جنات الأرض أيضا.

ولعل أهم خطوة فعلها الشيطان في هذا الاتجاه دفعه إلى هجرة الإنسان من الريف حيث الخضرة والأشجار والطبيعة الجميلة إلى المدينة بما تمثله من اكتظاظ وتلوث وبعد عن الطبيعة البكر.

وبعد أن أنجز الشيطان الرجيم هذا العمل المهم الثاني، بعد الإغواء والإخراج من الجنة، فإنه واصل سعيه من أجل أن تكون هذه المدن أكثر غربة بالنسبة للإنسان، أي أن يجعلها أكثر بعدا عن الطبيعة والجنة في مواصفاتها من حيث حضور الأشجار والثمار والنبات ومياه الجداول والأنهار وأصوات العصافير وغيرها من الحيوانات.

هذا على مستوى المدن، أما على مستوى البيوت، فإن البيت الذي كان يبنى على مساحة أرض واسعة في الريف تكون منفتحة على الطبيعة البكر في الداخل من خلال الأرض الكبيرة التي يمكن زراعتها، والبيت الذي كان منفتحا دائما على الطبيعة في الخارج من خلال الخضرة الواسعة في كل مواصفاتها التي ذكرنا، قد أصبح مع الوقت مجرد قفص معلق في برج ليس له إلا باب وشباك يطل به من فوق على أبراج أخرى لا مكان بينها لأفق الطبيعة الوديعة وأصواتها وروائحها المحببة إلى فطرة الإنسان التي لا تتبدل..

(يتبع)

©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com
©حقوق التصوير محفوظة للمصور نبيل الرواحي
nalrawahi@hotmail.com

تعليقات