يسكن في نفس
مدينتنا رجل سيكون بطل حكايتنا هذه، ويعمل والدي في زمن الحكاية سائق حافلة. وفي
تلك الحقبة لم يكن في مدينتنا كلها إلا ثلاث حافلات، يقود والدي إحداها. ويتنقل
رحمه الله في تلك الفترة بالباعة والتجار من سوق إلى آخر عبر المدن والبلدات
الصغيرة. لذا كان أغلب معارفه وأبطال حكاياته من هؤلاء.
البطل اليوم هو
رجل يعمل في بيع الملابس المستعملة. كان والدي يعطيه إسما نسيته. وهذه المهنة أو
التجارة كانت لا تزال في بداية ظهورها. وينتمي الممارسون لها إلى قبيلة واحدة أصبح
كثير من أفرادها الآن من كبار الأثرياء والمستثمرين.
بطلنا بدأ ممارسة
هذا النوع من التجارة في أواخر الخمسينيات، وكان ممن ابتلاهم الله بشرب الخمر. فعقب
عودته من السوق لا ينسى دائما أن يمر على الخمارة الوحيدة في المدينة فيشرب ثم يرجع
إلى بيته وهو يترنح ويغني.
في ليلة من
الليالي حدث شيء غريب. لم يغن الرجل وإنما غادر الخمارة وهو يبكي. وعندما اجتمع من
حوله الناس يسألونه عن سبب بكائه سألهم عن بيت رجل يعمل موظفا في البلدية. وبسبب
كثرة بكائه وإلحاحه بالسؤال دله أحد الحاضرين على بيت الموظف فذهب إليه. كان الوقت
متأخرا لذا تفاجأ الموظف بطرق الباب ثم بمشاهدة الرجل المخمور وهو يبكي مثل
الصبيان.
كان الهدف من مجيء
صاحبنا إلى بيت الموظف أن يسجله على قائمة حجيج تلك السنة. عندما سمع الموظف مطلبه
زاد استغرابه. ومع الحاح الرجل وتواصل بكائه، وعده الموظف بأن يفعل ذلك في صباح
الغد، ولكن الرجل قال إنه يريد التسجيل في الحال. أفهمه الموظف أن الدفتر ليس معه.
ولكنه أصر، فدخل الموظف حينئذ مرغما إلى بيته وجاء بكراس كان عنده ورسم جدولا وكتب في
أوله اسم صاحبنا الذي قبل رأسه وانصرف مترنحا وسعيدا إلى بيته.
ولم يُرى الرجل
بعد ذلك في خمارة المدينة أبدا وحج في نفس العام وحسنت توبته..
وانتهت الحكاية هنا،
ولكن لابد أن أحدثكم عن تعليق والدي عليها، كان يقول في كل مرة متفكرا: "عندما تأتي
التوبة من عند الله فإنه لا يوقفها شيء..".
ما أتذكره أيضا أن
والدي أثناء سرده للحكاية لم يكن يحزن، بل يرويها لنا كلها وهو مستبشر وسعيد وأتذكر إلى الآن أني كنت أستغرب سلوكه ذلك خاصة حين يستعرض بكاء الرجل.
© حقوق التصوير محفوظة للمهندسة مودة سيف الصوافي
mawada992@gmail.com
تعليقات
إرسال تعليق