لعبة القدر والعلم والإرادة.. قراءة في قصة مصورة للكاتب الياباني "جيرو طانيجوشي"


بقلم: محسن الهذيلي 

هو كتاب مصور لليافعين

مترجم من اليابانية إلى الفرنسية عنوانه "حيٌّ بعيد". قرأه ابني، فحدثني عنه، فقرأته بدوري. 

قصة الكتاب بسيطة ومباشرة. رجل في الثامنة والأربعين كان يتنقل أثناء أداء عمله في إحدى الشركات الكبيرة بين مدينتي كيوتو وطوكيو اليابانيتين. كان يستقل القطار السريع الذي يسمى "الشنكنزان". وهو قطار يعرف برفاهيته وسرعته الكبيرة.

انتبه المسافر إلى أن القطار مختلف عما تعود أن يركبه، ثم علم أنه يتجه في غير الاتجاه الذي يريده. فالقطار ليس متجها إلى طوكيو مقصده وإنما إلى مسقط رأسه، وهي مدينته الصغيرة التي أمضى فيها طفولته وشبابه وهو ليس له الآن فيها أي غرض. فأمه توفت عندما كانت في سنه الحالي أي ثمان وأربعين سنة. وأبوه اختفى ولم يعلموا عنه شيئا وتركه طفلا في سن الرابعة عشرة. وأخته تزوجت وتعيش في طوكيو. أما جدته من أمه والتي كانت تعيش معهم توفت هي الأخرى.

وحين وصوله إلى مدينته التي لم تكن تعنيه زيارتها. أراد أن يستقل فورا قطارا آخر إلى طوكيو. فوجد أن عليه الإنتظار ثلاث ساعات. فقرر أن يمضيها في زيارة لبيتهم. عندما وصل إليه لاحظ التغير الكبير الذي طرأ عليه، ولقي أن أناسا آخرين لا يعرفهم باتوا يسكنونه. ثم وجد نفسه يزور قبر أمه. وهناك في المقبرة الملاصقة لمعبد المدينة حدث شيء غريب! فكأن الوقت توقف أو تبدل..

وجاءت فراشة ذات ألوان وبدأت تحلق من حوله في الهواء فتقرب منه ثم تبعد ثم تعود تقترب وهكذا. وعندما قرر مغادرة المقبرة، أحس بأنه لم يعد هو. وأن يديه أصبحتا صغيرتين وجسمه أمسى خفيفا وخطواته عادت صغيرة ونشطة. وإذا به وهو يقف أمام زجاج إحدى واجهات المحلات التجارية يرى أنه لم يعد ذلك الرجل الكهل وإنما رجع طفلا في سن الرابعة عشرة. وحين استدار لاحظ أن المدينة قد تحولت ورجعت كما كانت في الماضي زمن طفولته. 

دون وعي، حث الخطى إلى بيت أبويه وهو يحسب أنه في حلم. فوجد البيت وعائلته تنتظره على أحر من الجمر وتلومه على غيابه الطويل وتأخره عن موعده. ثم لاحظوا اندهاشه وغرابة سلوكه. كان يعتقد طبعا أنه في حلم. . 

وعندما ذهب لينام في غرفته كان يظن أنه بالنوم ثم بعده سوف ينتبه. ولكنه وجد نفسه في الصباح لم يبرح صباه وباق ضمن حياته الماضية مع عائلته وفي مدينته. 

والطريف في هذه العودة أنها عودة ليست بشخصية الصبي الصغير وإنما بجسده فقط أما خبرته وعلمه فهي لذلك الرجل الكهل الذي كانه. أي بعقله الكامل وعلمه بالمستقبل  وبالحياة وتفاصيلها. 

وهذه هي ميزة الكتاب، الذي يتواصل معنا في جزأين كاملين يحدثنا خلالهما الكاتب عن هذا الشخص الطفل ذو العقل الرصين والذي له ثقافة واسعة وعلم بالمستقبل، أي مستقبله هو ومستقبل كل أفراد عائلته وكل زملائه وأصدقائه في المدرسة وعلم بمستقبل بلاده أيضا. وذلك إلى ثلاث وثلاثين سنة مقبلة. 

هذا هو إذن الشخص الجديد في القصة والذي ولد بين أيدينا فجأة بجسمه الصغير ولكن بكل حيرته وهمومه وإشكالياته الوجودية الكبيرة. 

ثم إن الفرادة التي كانت تميز هذه الشخصية أنها لن تكون متفرجة على الأحداث من بعيد ولا أن تكون سلبية تعيد اجترار ذات الحياة التي عاشتها من قبل . كان الصبي إيجابيا إلى أبعد الحدود. فهو محترب بشخصيته الجديدة كل الجدة لذا راح يتشابك مع الواقع، ويتفاعل معه بكل إيجابية، ويحاول تغييره وتغيير ما لم يكن يرتضيه فيه من قبل، وكانت له القدرة على ذلك، فعلى عكس الماضي هو ليس صغير العقل والعلم والخبرة الآن. 

وهذا هو أشد ما جذبنا إليه وإلى مغامراته وفعله وجعلنا نصبر وننتظر معه كيف سيكون المستقبل الجديد وإلى ما ستؤول إليه حياته وما الذي سيغيره فيها وما الذي سوف يعسر عليه تغييره. 

ورأينا ذلك فعلا في المآل الذي آلت إليه علاقة أبيه بأمه فمن حظه أنه رجع أشهرا قليلة قبل تاريخ اختفاء أبيه المفاجئ. وقرر  وسعى إلى التعرف على السر وأسباب غياب أبيه وذلك قبل وقوعه ومن أجل الحؤول دونه في هذه المرة. وبنفس الإرادة، قارب أشياء وعلاقات وأحداث أخرى في حياته. ولعل أهمها تعلقه بأجمل فتاة في الفصل والتي كان الظفر بها حلم كل زملائه في المدرسة. وقد كان يعلم نظرا لاطلاعه على المستقبل أنها ستتزوج ديبلوماسيا مرموقا وتسافر معه إلى الخارج. وعلى عكس ذلك المستقبل المعلوم، لاحظ أنه مع ظهوره الجديد بشخصيته الجديدة الناضجة والباهرة وجدها تتعلق به تعلقا لافتا ثم تعلن له عن حبها له..!

إنها حكاية الإنسان مع القدر والعلم والإرادة، في قصة تبدو بسيطة من أول وهلة ولكنها عميقة وربما فلسفية وذات دلالات دينية كثيرة..

تعليقات