القديسون 2 (Les apôtres 2)
قصة قصيرة خيالية
الاهداء: إلى روح الأب "جاك
هاميل" (Jacques Hamel)
بقلم: محسن الهذيلي
رغم سنه المتقدمة ورغم العمل المضني الذي يقوم به الأب "جاك" بمناسبة
الاعداد لقداس ليلة الميلاد وتقديمها في كنيسته في بلدة "سان تيتيان دي
روفري"، رغم كل ذلك إلا أنه ليس من عادته أن يشعر بالارهاق حد اعتذاره لرفاقه
واستئذانهم بالدخول يأخذ نصيبا من الراحة.
وللأب "جاك" في كنيسته بـ"سان تيتيان دي روفري"، فضاء
صغير يستعمله مثل خلوية أهل التصوف يطالع فيه بعض الكتب أو يقوم بحصصه للذكر. تلك
الليلة ورغم سعادته بعيد الميلاد ورغم التعب الذي بلغ منه مبلغه، فإنه عندما بات
وحده لم يفكر في النوم. جلس على أريكة هي أكبر حجما من بنيته الصغيرة وتربع، ليس
كعادته، وكأنه في حصة "يوغا". مسك الأب مسبحته وأغمض عينيه ليس لينام
وإنما هي عادته عندما يخلد إلى ذكر الله.
وفي وقت أضيق من الذي يرتد فيه الطرف، أحس الأب "جاك" أنه بلغ،
على غير العادة، فضاء الحلم وهو مستيقض. رأى رجلا يأتيه وهو في لباس أبيض تشع منه
أنوار عظيمة لكنها لا تخدش العين. أراد الأب جاك، وهو كما قلنا بين النوم واليقظة،
أن ينهض للرجل ويجلسه مكانه إلا أن الرجل في كثير من اللطف والسماحة أمسكه من طرف
لباسه وجلس عند قدميه.
محرجا انزلق الأب "جاك" من فوق أريكته إلى الأرض المفروشة فوجدها
على غير العادة أكثر دفئا من أريكته العتيقة فقال في نفسه مستأنسا: "في المرة
القادمة سوف أنام على هذه الأرض مثل أهل الله".
من أفكاره تلك، أخرجه صوت الرجل وهو يقول له: "يا أخي "جاك"
في الحقيقة لم أجئك لنجلس، أردت أن نتمشى إلى كاتدرائية "نوتر دام دي باري"".
محرجا ومترددا قال الأب "جاك": "اسمح لي.. إنني أعرفك حق المعرفة،
ولكن متى التقينا وأين؟"، قال الرجل: "إننا لم نلتقي أبدا، أنا
"سان دوني""، قال الأب "جاك" فاغرا فاه متعجبا رغم
ابتسامة حائرة حركت طرفا من شفته الدنيا: "الآن عرفت لماذا اخترت تلك
الكاتدرائية، لأن فيها أيقونتك؟".
حينئذ بكى "سان دوني" حتى تبللت لحيته، نظر إليه الأب
"جاك" وقال له حزينا: "آسف جدا"، قال "سان دوني":
" لا داعي للأسف.. هيا نخرج".
في الخارج مشى "سان دوني" في غير اتجاه محطة القطار، استوقفه
الأب "جاك" وقال له مشيرا بيده: "إن محطة القطار من هذه
الناحية..."، قال "سان دوني": "أعلم، ولكننا سوف نمشي على
أقدامنا". متعجبا، قال الأب "جاك": "على أقدامنا؟!"،
ابتسم "سان دوني" وقال: " يا عزيزي "جاك" أنت تظن أنها
بعيدة ولكنها في الحقيقة قريبة جدا، لن نلحق نكمل حديثنا عندما نصل إلى
هناك..."
مشى الأب "جاك" جنبا إلى جنب مع "سان دوني" فسأله الأخير:
" هل فعلت آثاما يا "جاك"؟". توقف الأب "جاك"، أطرق
إلى الأرض، لحظات وبدأت دموعه تتساقط على الاسفلت مثل مطر الخريف. ولم يرفع الأب
رأسه إلا عندما سأله "سان دوني": "وهل قمت بأعمال حسنة يا
"جاك"؟". وهو يمسح دموعه من على خديه ويرفع رأسه متأملا الأفق
أمامه، قال الأب "جاك": "كانت كلها بفضل الله.."، قال
"سان دوني": " أي من تلك الأعمال كانت الأحب إلى قلبك؟"، قال
الأب "جاك" وقد زاد بكاءه: "كلها كانت بتوفيق من الله..".
وضع "سان دوني" يده اليمنى على الكتف اليسرى للأب
"جاك" واستقبله وهو يقول: " لماذا سعيت كي يحصل المسلمون على تلك
الأرض لبناء مسجدهم؟"، نظر الأب "جاك" في عيني "سان دوني"
متأملا وصمت. قال "سان دوني": "عزيزي "جاك" أريدك أن
تجيبني هذه المرة"، قال الأب "جاك": "لم يكن هدفي سوى أن
أساعد على أن يعبد الله على أرضه.."، قال "سان دوني": "كان
هذا ما كنت أسعى إليه أنا أيضا عندما استشهدت.."، رفع الأب "جاك"
رأسه ونظر أمامه مندهشا: "ما هذا؟! إننا أمام كاتدرائية "نوتر دام دي
باري"؟!"، قال "سان دوني" مبتسما: "قلت لك يا أخي
"جاك" إنها ليست بعيدة كما تعتقد.."
عندما وقفا أمام المدخل الشمالي للكاتدرائية، رفع الأب "جاك" رأسه
يرى أيقونة "سان دوني". كان واضحا أن الأب "جاك" لم يكن
متحضرا للمفاجئة التي كانت في انتظاره، عندما رأى الأيقونة خارت قواه فدلف إلى
داخل الكنيسة وألقى بنفسه على أول كرسي.
جلس "سان دوني" بجانبه وسأله: "هل ترى الأيقونة لأول مرة يا
"جاك"؟"، قال الأب "جاك": "ولكن الرأس..!!!"،
قال "سان دوني": "إنه رأسك..."، قال الأب "جاك":
"ولماذا رأسي؟!"، قال "سان دوني": "لأنك ستموت شهيدا
مثلي وسوف يقتلك مثلي المشركون "، قال الأب "جاك" وقد جحضت عيناه:
""المشركون"؟! وهل سيعودون؟!"، قال "سان دوني": "بل
لقد عادوا وهم بصدد حكم العالم بالفساد والافساد"، قال الأب "جاك":
"ولماذا يقتلونني؟!"، أجاب "سان دوني": "لأنك، بين
المؤمنين، حلقةً للوصل وليس للفصل".
حينئذ رفع الأب "جاك" رأسه إلى السقف وتمتم متسائلا: "وكيف
الخلاص إذن؟"، وهو يتأمل سقف خلويته في كنيسته بـ"سان تيتيان دي
روفري" ويتحسس غطاء أريكته العتيقة، سمع صوتا يتردد في كل أنحاء فضائه الصغير
يقول له: "باتحاد كل المؤمنين الموحدين"
© جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن
الهذيلي
Mohsenhedili2@gmail.com
تعليقات
إرسال تعليق