واحد من أجمل أيام عمري!

  





بقلم: محسن الهذيلي

لو تسأل الناس عن أجمل يوم في حياتهم لأخبروك عن يوم يسكن هناك في ماضيهم، وربما ارتبط لدى بعضهم بطفولتهم أو أول الشباب.

لذا من النادر أن تلتقي بشخص يقول لك إن أجمل يوم في حياتي كان البارحة.

ومع ذلك نجد أن هناك من يعيشون أجمل أيام حياتهم كل يوم أو لنقل في أيام متعددة وهي غير نادرة.

وهنا أريد أن أصف لكم إحدى أجمل أيام حياتي الذي عشته في عطلة آخر الأسبوع الأخيرة.

وترتبط كل أجمل أيام عمري، ودون استثناء، بالبعد عن المدينة بما تمثله من ضوضاء وتلوث واكتظاظ.

لم يكن هناك استثناء هذه المرة أيضا، فقد غادرت المدينة التي أقطنها، وزرت صديقا لي يسكن بلدة صغيرة معروفة بواحاتها ووديانها. وتبعد بلدة صديقي عن مدينتي قرابة الستين كيلومترا. 

عندما التقينا، كان المؤذن ينادي لصلاة الظهر، ذهبنا نصلي، ثم دعاني إلى الغداء، اعتذرت له وقلت إنني إنما جئت من أجل الطبيعة وأكدت قائلا: " لقد أتيت إلى بلدتك التي أحبها كي ألتقيك فتدلني على مكان يقع في كنف إحدى الواحات "تجري تحته الأنهار". أريد أن أنام هناك بين الظهر والعصر".

لم يتفاجأ صديقي من طلبي فهو يعرفني جيدا، ويعرف تعلقي بتلك الأماكن التي أقارنها دائما بالجنة التي تجري تحتها الأنهار. 

وتتميز بلدة صديقي بتلك السواقي الرائعة التي يسمونها "الأفلاج" ومفردها "فلج".

قرر صديقي أن يأخذني إلى مسجد صغير يقع في قلب إحدى الواحات. وكان من عادة أهل هذه البلاد أن يجعلوا أفلاجهم تمر بمساجدهم كي يضمنوا لأنفسهم في الماضي وجود الماء والاغتسال والوضوء قبيل الصلوات.

كان المسجد جارا لفلج يطفح بالماء. قربت منه فلم أشعر بصوت خرير الماء، ولكن صوت الطبيعة من حولي أنساني ذلك النقص. وهو في الحقيقة ليس نقصا فالماء الجاري وحده له أثر عجيب على نفسي. وهو يجلب لي، كلما نمت عنده، أحلى الأحلام وأطيبها. وأقول هذا عن تجارب عشتها عبر أماكن متفرقة من العالم.

عاد صديقي إلى بيتهم البعيد عن الواحة بعد أن اتفقنا على اللقاء إثر صلاة العصر.

دخلت المسجد الصغير فوجدت نوافذه مشرعة، استلقيت على ظهري مستمعا إلى الهدوء الجميل وهو أصوات الطبيعة التي يستحيل أن تجدها معلقة على جدران المدن الصاخبة.

كنت مستلقيا على ظهري أتطلع إلى السقف وأتأمل الأصوات، لذا أغمضت عيناي لزيادة إحساس.

برهة من الزمن وجاء المؤذن يؤذن لصلاة العصر. لقد نمت قرابة الساعتين دن أن أشعر، وذلك رغم استنادي إلى الأرض الصلبة.

كانت ساعتان من النوم قضيتهما في أحلام أجمل من الحياة. 

عندما غادرت لأتوضأ في الفلج. وجدت آخرين قد سبقوني إليه وكان بينهم رجل قرر أن يلعب بالماء فيحدث ذلك الصوت المبدع والمحبب إلى روحي.

كان الصوت ينطلق في إطار من هدوء الطبيعة تزينها زقزقة العصافير وأصوات أخرى لعل ألطفها حفيف أوراق النخيل. وفي تلك اللحظة تهيأ لي أنني بدأت أستمع إلى جريان الماء في الفلج ربما لأنني قربت أكثر منه. فقد ولجت فيه بقدمي.

قبل لحظات كنت نائما نوما لطيفا لم أع حتى كيف دخلته ثم خرجت منه. والآن ها أنا ذا أنزل بكل جرأة وسط الماء الجاري للساقية أو الفلج وأتوضأ على طريقة أهل البلد. لقد استقبلت بقدمي وشعرت بكل جسدي ماء الفلج المعتدل البرودة.

لقد كنت أحس به يجري على أطرافي ينبهني عن بقية حلم يشبه العافية وطول العمر، ورأيت فيه نفسي سابحا في نهر من الهدوء والأمان والسلام.

توضأت وقدماي في الماء ثم خرجت كما يخرج عصفور من جدول ماء شرب منه واستحم. دون أن أجفف نفسي، وقفت في سطحة المسجد، وليت وجهي شطر القبلة وصليت، فلم تكن هناك صلاة جماعة بسبب كورونا.

انتهيت من الصلاة فجلست أذكر الله وأدعوه. سرحت بعيني في كل اتجاه، نظرت إلى النخيل ثم إلى الأشجار ثم إلى السماء التي تظلنا جميعا واستمعت لأهازيج الطبيعة الآمنة المطمئنة وأنا مغمض العينين.

عندما جاء صديقي كنت حاضرا للذهاب معه. قال إنه جاءني بالغداء وأننا سنأكل في مكان آخر. كان المكان الذي اختاره يقع فوق الماء تقريبا، فهو يجيء على سطح جزيرة، في واد جار، لا تسع إلا أسرة واحدة.

كان قصب الجداول يظلنا ويحمينا من الشمس التي لا زالت حارقة. ورأيت الماء يجري بين أيدينا وله، في هذه المرة، ذلك الصوت المحبب إلى نفسي. فعلى مقربة منا يقع شلال رائق صغير يعزف لنا أبهى الموسيقى ويسوق إلينا أمامه هواء باردا يثلج الروح.

جلسنا أنا وصديقي وتحدثنا في شؤون الآخرة وذكرنا الله كثيرا ونسينا الدنيا وما فيها وصلينا وطال حديثنا. فمن وقت صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء لم ننتبه إلى الوقت كيف مر.

ولأننا لم نكن ننوي النوم هناك، فقد قررنا أن نتفارق حتى لا يسرقنا الوقت من أنفسنا ثانية فيطلع علينا الفجر. بقي صديقي في بلدته الجميلة ورجعت ليلا إلى مدينتي أحمل في روحي صيدا ثمينا هو واحد من أجمل أيام عمري.


©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com
©حقوق التصوير محفوظة للمصور نبيل الرواحي

nalrawahi@hotmail.com

تعليقات