أماكن في الدنيا تذكرنا بالجنة

 





بقلم: محسن الهذيلي

نشرت على مدونتي منذ أيام ورقة تحت عنوان: "واحد من أجمل أيام عمري". ولقيت هذه الورقة تفاعلا إيجابيا من لدن بعض أصدقائي. فقد وجدوا فيها أنفسهم. ومن الرسائل التي تلقيتها، رسالة من إحدى المهندسات التي كانت طالبة متميزة عندي.

حدث أن قرأت المهندسة الورقة وهي لا تزال تحت تأثير زيارة قامت بها لإحدى القرى الجميلة في بلادها. وأخبرتني أنها أحست مثلي بنفس الشعور بالفرحة والسلام الذين تحدثت عنهما في ورقتي، كما قارنت مثلي بين المكان الذي زارته والجنة، وتساءلت بينها وبين نفسها: "سبحان الله! إن كانت زيارتي لمكان في الدنيا قد جعلني أحس بالجنة فكيف هي الجنة في السماء وكيف سيكون إحساسي بها؟"

والسؤال الأهم لدى مراسلتي لم يكن هذا في الحقيقة، وإنما آخر فلسفي نوعا ما، حيث تساءلت قائلة: هل الناس الذين يسكنون هذه القرية ويعيشون في كنف تلك الطبيعة الرائعة واعون حقيقة بجمال عالمهم البهي؟ أم أننا وحدنا نحن القادمون من المدن الصاخبة والاسمنتية من ينتبه إلى ذلك الجمال والسحر؟

لقد ذكرتني طالبتي السابقة التي باتت مهندسة ناجحة، وتقوم الآن بإنجاز العديد من المشاريع الثقافية والفنية ضمن تعاون جميل بينها وبين زوجها، ذكرتني بحديث لرسول الله يقول فيه: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى". فالأصحاء يعيشون الصحة ويتمتعون بها ولكنهم ربما لا يعون بها، وفقط عندما يفقدونها يرونها. فأهالي تلك القرى الجميلة ينعمون لا شك بطبيعتها الرائعة والهواء النقي الذي يتنفسونه والهدوء الرحماني الذي ينغمسون فيه ليل نهار ولكنهم، وربما بسبب ذلك، لا يرونه.

إن عالمهم يشبه عالم تلك السمكة الصغيرة التي كانت تسمع الأسماك الكبيرة تمجد في كل وقت البحر وتتحدث عن مدى جماله وحيويته وضرورته. ولكن لم يكن للسمكة الصغيرة ذلك الوعي بالبحر كي تفهمهم، لذا كانت طول الوقت تمرح منشغلة وربما تسخر منهم وتقول في نفسها: "لقد خرف أولئك الكبار، يتحدثون عن شيء لا يوجد". وعندما اصطيدت في إحدى الأيام وأرادت أن تتنفس الحياة ولم تجدها صاحت حينئذ: "لقد آمنت بوجودك يا بحر.."

فالذين ينعمون بالصحة والعافية وكذلك الذين ينغمسون في محيط من الهواء الطلق الذي لا تكدره الملوثات، والذين يتطلعون إلى الآفاق البعيدة دون أن تخدش أبصارهم جدران الاسمنت الجاثمة على النفوس، هؤلاء ربما لا يعون حقيقة كل ذلك الجمال الذي يمثل الإطار الحيوي الذي يكبرون ويترعرعون فيه.

هذه مسألة، هناك مسألة أخرى، لا تقل أهمية عنها لفهم سؤال المهندسة والإجابة عليه، وهي تتعلق بالتلاعب بالعقول.

وأقصد تلاعب إعلام الاستهلاك الذي بات يربي الناس ويبيعهم أفكاره والقيم التي يعيشون عليها. وقد اشتغل هذا الإعلام الهابط بنحت المفاهيم والأفكار بحيث لم يعد الفقر واقعا وإنما مجرد فكرة تحقن في عقول الناس.

لقد نجح ذلك الإعلام الرخيص في إقناع الناس بفقرهم بينما هم أغنياء. ولم يكن الفقر فيما مضى وعند المسلمين على سبيل المثال يعني قلة المال وعدم الثراء وخشونة العيش، فرسول الإسلام عاش فقيرا حياته كلها، هذا من المنظور المادي للفقر، أما إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى أكثر واقعية، فإننا نجد أن الفقر بالنسبة للمسلمين هو فقر الإيمان والتقوى والأخلاق، ومن هذه الأخلاق الكرم والجود والتعاون وحب العطاء والتضحية من أجل الآخرين.

وعندما نرجع إلى إعلام الاستهلاك فإننا نجده يروج للفقر والغنى الماديين، حيث يصور السعادة والنعمة في حدود حياة المدينة واستخدام مرافقها وملاهيها. 

لا يرينا إعلام الاستهلاك أن السعادة إنما هي ضمن أحضان الطبيعة البكر نعيشها بنفوس قانعة وقلوب متسامحة ونزرع ونحصد ونأكل مما تنتجه أرضنا التي تحت أقدامنا، بل يصور لنا الحياة الرغدة والمطلوبة ما نقضيه ضمن أجواء الاستهلاك والاقتناء والشراء، وذلك ضمن مولات تتشابه كلها وهي بلا نوافذ على السماء وما تحتها، حيث نتنقل خلالها وكأننا جرذان مروضة نضيع أعمارنا نشتري أشياء لا نستعملها ونجلس في مطاعم كي نأكل أشياء لا نعرف من أين جاءت ولا كيف تم تحضيرها.

أما صورة المسكن أو البيت الذي يروج له إعلام الاستهلاك ذاته، فلن يكون بالتأكيد شبيها ببيت الطوب ضمن قرية في واد ذي زرع تكتنفه أشجار النخيل والرمان وتجري خلاله السواقي تروي الحرث والنسل، وتربط مصير أهله وحاجاتهم بأرضهم ومحيطهم الذي يعيشون فيه وإن كان متواضعا. وهو في الحقيقة ليس كذلك، إن نظرنا إليه بمنظار الجنة وصورها ونماذجها كما يقدمها لنا القرآن الكريم: أشجار مثمرة، جداول تجري من تحتنا، أمان وسلام ومحبة وحسن جوار، وذكر وتسبيح وحمد لله.

 ©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي

mohsenhedili2@gmail.com

 © حقوق التصوير محفوظة للمهندسة مودة سيف الصوافي

mawada992@gmail.com


تعليقات