رسالة من شيخي إلى أستاذتي

 





بقلم: محسن الهذيلي

أيتها الأستاذة المحترمة

السلام عليك ورحمة الله وبركاته

لقد كلفني تلميذي أن أكتب إليك هذه الرسالة. وهو تلميذك من قبلُ في مدرسة الفنون الجميلة، ثم التحق بحلقتي لتعلم فنون الخط العربي.

لقد أخبرني أنك على علم بهذه الرسالة التي سأحدثك فيها عن الله، فهو يقول إنك بصدد البحث عنه. وتجربتي مع الله ربما لا تكون ذات فائدة كبيرة لك، فأنا تعرفت عليه في سن الطفولة. أي قبل أن يكتمل عقلي. لذا فإن حديث العقل ربما يكون صعب المنال علي.

فوالدي، الذي كان خطاطا أيضا، علمني منذ بلغت الخمس سنين أن أقول كلما رأيت شيئا جميلا أعجبني: "سبحان الله الخالق المصور". فكنت أرددها كثيرا جدا. لأننا كنا نعيش في الجبل، وكنت أرى وأسمع وأشم وأتذوق أشياء كثيرة جميلة وطيبة. وعندما أكون مع والدي في بعض الأسفار أو التنقلات، ويسمعني أردد "سبحان الله الخالق المصور"، يتوقف عن ورده ويبدأ يعيدها معي.

وكنا في ذلك الوقت نعيش في بيت يبعد عن مركز القرية قرابة الخمسة عشر كيلومترا. والطريق إليه وعر جدا، ولا يجعله سهلا علينا إلا حمارنا الوفي "جميل".

لقد أطلق عليه أبي هذا الاسم لأنه جميل فعلا. كان والدي يقول لي إن طول أذنيه فيها جمال وحكمة وكذلك شكل وحجم رجليه، ومثل ذلك عينيه وأشفاره وشعره وذنبه أيضا.

وحين نصعد الجبل، الذي فيه بيت أبي والذي هو بيت جدي قبله وأسكنه أنا الآن، أو ننزل منه، أحس بالخوف لشدة المنحدر. فيطمئنني أبي ويقول لي إن الله خلق في "جميل" قدرة عجيبة على تسلق الجبال والنزول منها. وحدثني عن عجائب ما خلق الله فيه حتى يحافظ على ثباته وتوازنه. وعندها أطمئن تماما، وأبدأ أتابع حمارنا "جميل" في حركاته الرشيقة والمتزنة التي لا يقوى عليها كبار راقصي البالي.

وعندما كبرت وجدت أن لساني قد تعود على ذكر الله وكذلك قلبي. وكان أبي يقول لي دائما: "إن ذكر الله يبدأ باللسان ثم يصبح ذكرا بالقلب ثم يتحول إلى ذكر بالسر"، المهم أن نداوم عليه ليل نهار.

ووالدي كان حيا عندما تعرفت أول مرة على ذكر القلب. وهو الذي دلني عليه، ومن علاماته أنه يأتي مع فرحة عجيبة يصاحبها وابل من الدموع. والسبب فيها كما قلت لك هو الذكر الكثير، الكثير جدا...

لذا أصبحت حين أسعد أذكر الله، وحين أحزن أذكر الله، وقبل أن أنام أذكر الله، وحين أستيقظ أذكر الله، وأثناء العمل أذكر الله... الخ.

ولأنني تعلمت الخط من أبي، وأصبحت خطاطا مثله، فإن عمل الخطاط يستغرق وقتا طويلا، وهو وقت لا نتكلم فيه عادة، لأننا نكون في الغالب وحدنا. وحتى عندما نكون في جماعة، فإن الحاجة الكبيرة إلى التركيز تتطلب منا السكوت إلا عن ذكر الله. لأن ذكر الله، على عكس الكلام مع الأقران، يقوي فينا التركيز على العمل، لذا كنا نكثر منه، أقصد ذكر الله طبعا.

وأنت فنانة تشكيلية، وتعرفين كم يستغرق تخطيط الحروف والكلمات العربية وزخرفتها، أحيانا أياما عديدة. فكنا نمضيها كلها في ذكر الله. وحين نكتب الآيات القرآنية، كنا نرددها بيننا وبين أنفسنا مئات المرات بل آلاف المرات. فتخيلي يا ابنتي كم نقضي من الوقت مع القرآن وذكر الله. إننا نقضي معها أغلب أعمارنا.

وحينئذ يأتينا فجأة دون أن ندري، وكما يطلع الصبح بعد الظلام الطويل، ومثلما تنزلق الثمرة من بين أسرار الزهرة، يطلع علينا مثل موسم الحصاد: ذكر السر.

وهذا النوع من الذكر يا ابنتي، عندما يطل عليك فجأة، فإنك تتركين كل شيء وتخرجين تمشين في الجبال، وحدك، وهذه المرة لا ترين ولا تسمعين ولا تشمين ولا تتذوقين شيئا، وإنما تهيمين على وجهك طول النهار وتمام الليل، وربما تنامين نومة هادئة تحت شجرة بينما المطر ينزل عليك، أو تجلسين عند جحر ذئب ويدك تداعب التراب ولا يخيفك شيء، لأنك لا ترين شيئا غير الله ولا يكون في قلبك غيره. وعندما يكون الله وحده في قلبك، فكيف تفكرين فيما سواه؟!

أما كيف يحفظك الله من أولئك الذئاب والثعابين وغيرها من الوحوش الضارية، فهذا لا تعودي تفكرين فيه، فهو ليس من شأنك، فقلبك خال منها جميعا، فكيف ترينها أو تحسين بها أو تفكرين فيها.

آسف يا ابنتي على هذه المقدمة الطويلة، فقد حدثتك فيها عن تجربتي دون استعراض أي حجة أو دليل.

ولكن الناس في هذا الزمان يحبذون الحجة "العلمية". فدعيني أحاول رغم قلة زادي، وأساعدك ما استطعت. ستجدين فيما سأطلبه منك بعض طرق العرفان ولكن لا تخافي، إنه أسلوب غير أسلوب الذكر.

كي تتعرفي على الله، أطلب منك أن تستعيني بما توفره لنا اليوم الشبكة العنكبوتية، حاولي أن تبحري عليها كل يوم ساعة أو نصفها، تبحثين خلالها عن معلومات علمية تتعلق بمخلوق من مخلوقات الله، حيوانا كان أو نباتا أو حشرة أو جمادا، اقرئي عن أسراره العجيبة، وكلما تعجبت من إبداع خلقه، قلي: "سبحان الله"، حتى إن لم تكوني تؤمنين بعد بالله. وأحذرك، لا تنصتي لعقلك عندما يكون لا عقلانيا، فيحاول إقناعك بآلاف الصدف، لأن آلاف الصدف ومئات آلاف الصدف غير ممكنة عقليا. وسوف تكتشفين كل سنة 365 مخلوقا عجيبا. لا تقلقي، لن ينفدوا أبدا، إنهم يعدون بمئات الآلاف بل بالملايين، وكلهم مخلوقات متميزة وعجيبة.

وبعد عشرين سنة، وأنا أسأل الله لك طول العمر، ستتعرفين على قرابة 7300 مخلوق عجيب، وستكونين قد تفوهت آلاف المرات بل عشرات الآلاف من المرات بكلمة "سبحان الله" و"لا إله إلا الله" وغيرها من ذكر الله، ومع الوقت سيبدأ قلبك يتعود عليها ويأخذك بعدها رويدا رويدا إليه.

سيكون هذا هو "وردك العلمي"، تقومين به في كل يوم وعلى مدى العشرين سنة أو أكثر. وأحذرك، يا ابنتي، من الدنيا، إن مغرياتها كثيرة، لا تخافي من فقدها، لأن أجمل ما فيها سعادة وطمأنينة تغشيان قلوبنا المحتاجة إلى رحمة الله.

والآن أحب أن أنبهك إلى شيء، لقد أرسلت إليك مع رسالتي هذه صورة للماء. تأمليها جيدا وتفكري في قول الله: "وجعلنا من الماء كل شيء حي". لذا أسألك أن تتفكري، من بين مخلوقات الله، في الماء، وستكتشفين إعجازه وإعجاز هذه الآية القرآنية. فالقرآن هو المرآة، لإبداع الله ومعرفته.


©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي
mohsenhedili2@gmail.com
©حقوق التصوير محفوظة للمصور نبيل الرواحي

nalrawahi@hotmail.com

تعليقات