زيارة إلى الواحة

 






 

بقلم: محسن الهذيلي

في عطلة آخر الأسبوع الأخير، رجعت ثانية إلى ذلك المسجد الصغير داخل الواحة. لقد ذكرته في مقال سابق، ويقع في تلك البلدة التي يقطنها صديقي، والتي تبعد عن مدينتي قرابة الستين كيلومترا.

في زيارتي لها، هذه المرة، لم أكن وحدي. كان معي ابني.

وصلنا إلى البلدة عند الصباح، فكان أول ما فعلنا، وقوفنا عند بعض أشجار السدر. لقد قمنا بجمع بعض النبق الساقط على الأرض.

بعدها، ذهبنا جلسنا عند الوادي. وبينما كنت أستمتع بصوت خرير الماء، كان ابني يرمي بالحجارة كي تتدحرج على سطحه وتنزلق دون أن تغطس.

عندما أذن للظهر، ذهبنا إلى ذلك المسجد الذي تعلقت به منذ عرفته. وهو يقع، مثل كل مساجد بلدات المنطقة، على خط مرور ساقية الماء، أي الفلج. توضأنا ثم صلينا. بعدها، أخرج ابني كتبه وكراساته، وبدأ يذاكر دروسه. استلقيت على ظهري، كما هي عادتي، أذكر الله حتى نمت. كان هدوء الطبيعة، تزينها أصوات مخلوقاتها الإلهية، يهدهدني ويغريني بالنوم وبأحلى الأحلام. لم أستيقظ إلا على قدوم المؤذن. وهو رجل معروف في تلك البلدة، فهو يؤذن فيها منذ ما لا يقل عن سبعين عاما. وحسب صديقي، فإن الرجل قد تجاوز المائة سنة من العمر.

نهضت، وتوضأت في الساقية، أي الفلج، ثم صليت في السطحة مع ابني جماعة. بينما قام المؤذن بالصلاة في الداخل وحده، وذلك بسبب كورونا. هذه المرة، على عكس المرة التي سبقت، أبطأ الإمام داخل بيت الصلاة. وعندما خرج، كنت أنا وابني قد أكملنا صلاتنا، ونستعد للانصراف.

كان المؤذن الشيخ قد لاحظ، عند وصوله، أن ابني أخذ يذاكر في المسجد. لذا، تحدث إليه، وطلب منه أن يأتي دائما، لأن المسجد يكون فارغا، ولا أحد يزعجه فيه.

كانت هذه اللحظات، التي تحدث فيها المؤذن صاحب المائة سنة إلى ابني، من أجمل ما عشت في هذه الرحلة الصغيرة. لقد كان يتكلم معه بلطف جم، وبابتسامة صادقة عميقة نادرا ما نلتقيها. وهي نوع ابتسامة زاهية تصور بعض رحمات الله، وهي هدية عظيمة من عنده. لقد استمتعت بهذا اللقاء الجميل. كما أن ابني سعد به. فقد قال لي بعد ذلك: "كم أن المؤذن رجل طيب ولطيف".

كان واضحا أنه رجل سعيد ومطمئن وله روح المؤمنين. لم أكن أريد من ذلك اللقاء أن يتوقف، ولكن لابد لذلك الشيخ من الانصراف، فهو كبير في السن، ولابد أن الوقوف ينهكه.

انصرف المؤذن الشيخ، ولكن ترك في نفسي ونفس ابني انطباعا جميلا بالأمان والرحمة والإيمان.

في نفس هذه الرحلة، عشت وقتا آخر ممتعا. كان عندما توضأت في الساقية، أي الفلج. ولجته بفرحة لقاء الماء البارد في جو حار، توضأت، ثم تركت قدميّ فيه، وجلست أنظر من حولي إلى نخيل الواحة، وأستمع إلى أهازيج الطيور وبعض الضفادع، ممزوجة بأصوات بعض الحشرات المنشدة.

في هذه اللحظة، كنت على موعد مع اليعسوب تلك الحشرة التي تشبه طائرة الهيليكوبتر، ويقال إن هذه الطائرة مستوحاة منها. ولكن الفرق بينهما واضح جدا. فهذا اليعسوب سريع الحركة، وسريع تغيير الاتجاه بشكل مبهر، وهو ما لا يمكن لطائرة الهيليكوبتر الإتيان بأقل منه بمئات المرات. وفي وقت من الأوقات، أحسست أن اليعسوب انتبه لوجودي، فبدأ يطير سريعا، وعندما يصل عندي يغير فجأة اتجاهه، ويذهب تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار وأخرى إلى فوق.

بعدها، ظهر يعسوب آخر، وبدآ يلعبان. كان ما فعلاه مع بعضهما، استعراضا عجيبا في سرعة الطيران وسرعة تغيير الاتجاه، كانا يأتيان به في لمح البصر. وما زاد الأمر عجبا، أنهما كانا يفعلانه وهما متقاربان، متسابقان، متنافسان، متلاحقان.

كانت تلك ساعة مباركة التمست فيها، أثناء ذلك الاستعراض الباهر في الطيران، عجيبة من عجائب خلق الله. وقلت في نفسي: "إن أكثر الطائرات تطورا لا تستطيع أن تأتي بواحد من مليون من ذلك التناسق والدقة والتوفيق". ورغم ذلك، هناك بعض الناس، يرون في عمل الإنسان إبداعا، وفي خلق الله صدفة حدثت إتفاقا!

في طريق العودة، في السيارة، وتعبيرا عن سعادته الكبيرة بهذه الزيارة في كنف الطبيعة، وتردده على مكان الإيمان الأهم، وهو المسجد، ولقائه بأحد الرجال المؤمنين، كان أول ما قاله لي ابني: "أبي، متى نرجع إلى هنا؟".


©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي

mohsenhedili2@gmail.com

تعليقات