عمارة القلب عمارة الانفتاح 15

 


 




عمارة الحداثة، عمارة في حقيقتها بلا نوافذ ولا أبواب!

 

بقلم: محسن الهذيلي

كان رسولنا الكريم يقول ما معناه: إن أسوأ الأماكن على الأرض الأسواق وأحسنها المساجد.

الأولى نعيشها للحاجة والضرورة، كي نبيع ونشتري، من أجل العيش في الدنيا؛ والمكان الثاني هو للعبادة، كي نحقق غايتنا ومبرر وجودنا في هذه الحياة، وهي طاعة الله والعمل للآخرة.

ولكن لو نظرنا إلى المكانين نظرة معمارية، وعلى ضوء معايير عمارة الانفتاح، التي نحاول وصفها في عدد من المقالات، ماذا نجد؟ نجد أن عمارة السوق منغلقة، وعمارة المسجد منفتحة. فالسوق ينغلق على هذه الحياة الدنيا المحدودة زمنيا، ونجد أن منتهى غايته، أننا نحتاجه من أجل أن نبقى على قيد الحياة ونستمتع بها ما استطعنا.

أما المسجد، فإنه مكانيا منفتح، لأن له وجهة، وهي القبلة، فهو ينظر اتجاه نقطة تقع خارج حدوده، بينما لا ينظر السوق إلا إلى ما يعرض فيه من بضائع ومستهلكات، وهي تقع في قلبه.

والمسجد منفتح أيضا، لأنه مكان للعمل للآخرة. فهو يفتحنا، من خلال العبادة، على عالم خارج الدنيا كلها. أي إننا ونحن في المسجد، عيوننا تنظر في اتجاه الآخرة، وترنو إلى رضا الله ورحمته.

فالمسجد، إذن، ليس حيزا منغلقا على نفسه وعلى الدنيا، وإنما منفتح على الآخرة ورضا الله.

عمارة تيار الحداثة:

 ولو نظرنا في العمارة التي أنتجها تيار الحداثة، فإننا نجد أنها عمارة منغلقة. ربما المسألة ليست واضحة عندما ننظر إلى حيز مثل البيت، لأن هذا الأخير بناه الإنسان بأشكال مختلفة قبل الحداثة بكثير. ولكن لننظر إلى المشاريع الجديدة، التي لم تكن موجودة قبل ظهور تيار الحداثة. علينا ألا ننسى أولا أن هذا التيار قد جاءنا راكبا موجة الفلسفات المادية والعلمانية واللا دينية، التي قلبت كثيرا من المفاهيم في عقول الناس وداخل المجتمعات المختلفة؛ لذا فقد صاحب ظهور تيار الحداثة في العمارة، مشاريع جديدة حداثية تماما، مثل قاعات السينما والمولات والملاهي الليلية ودكاكين الجنس وكازينوهات القمار وما شابهها...

ونلاحظ أن هذه الأماكن الحداثية، التي جاءتنا مع الحداثة ولم تكن قبلها، تتميز بشيء واحد، وهو التقوقع على الذات، وهي منغلقة وضد أي انفتاح، إنه حيز السوق كما أشرنا آنفا، يدعونا إليه بأساليب شتى، ولكن ينغلق علينا بعد ذلك.

حديقة الحداثة:

وبسبب هذا الانغلاق على الذات وعلى المادة وعلى السلعة مهما كان نوعها، فإنه لا يوجد أي داعي للانفتاح على خارج ما، لذا لم يوجد، ضمن تيار الحداثة في العمارة، أي مفهوم أو وجود لمكان اسمه حديقة الحداثة، أي حديقة ابتدعها تيار الحداثة في العمارة، وتتكون وتنتظم من حولها حياة خاصة بعمارة الحداثة وما بعدها، ونقصد العمارة العلمانية عموما.

وذلك رغم أن الحديقة هي مفهوم وحيز عريق جدا في تاريخ الإنسانية. ولكن تيار الحداثة كان كما قلنا انقلابا في نظرته للوجود والحياة على كل الفلسفات التي كانت تحرك الناس قبل قدوم الفلسفات المادية والعلمانية. في الماضي كانت هناك الحديقة الإسلامية والحديقة اليابانية والصينية والهندية والفارسية، وكانت هناك أيضا الحدائق البابلية المعلقة المشهورة، ولكن لم تلد لنا الحداثة أي طراز خاص بها يتعلق بمفهوم الحديقة.

بل إننا نلاحظ أن كثيرا من مشاريع الحداثة التي صممها مهندسون مؤسسون لهذا التيار، تفتقد لوجود حدائق فيها، والأمر يتواصل إلى اليوم، فكلما تقدم تيار الحداثة والعلمانية، الذي حمل أسماء جديدة مثل ما بعد الحداثة والتفكيكية وغيرها، كلما ابتعد أكثر عن مفهوم الحديقة وأنسى الإنسانية تاريخها التليد مع الحدائق عبر الأجيال السابقة.

ولعل من المضحك حقا أن ترى برجا عاليا تطل من شرفاته شجيرات مثل الفطريات، ويحدثك مصممها عن الأشجار والطبيعة والبيئة! هذه الصورة ربما تيسر لنا فهم الغياب الرهيب لمفهوم الحديقة في ظل فلسفة الحداثة وما بعدها من الفلسفات والتيارات المادية المنفصلة عن أي غاية لا ترتبط بالسوق والاستهلاك وهنا والآن.

وقد يعترض البعض بالقول: "كيف تصف عمارة الحداثة بعدم الانفتاح، وهي عمارة تقوم أساسا على مبدا الانفتاح والنوافذ الوسيعة والأفقية، وهو ما يجعلها تتطلع على الخارج في شفافية لم تعرفها العمارات القديمة؟"

نحن نعتقد أن هذا لا يعطي أولا للفضاء اتجاهها، بل على العكس، فلأن انفتاح الحيز الداخلي على الخارج يتم في كل الاتجاهات، فذلك لا يجعل الحيز الخاص هو المنفتح على الخارج بل يجعل الخارج مطل ومطلع على الداخل. أي أن يصبح الداخل جزءا من الخارج.

ثم إنك إن انفتحت بحيزك على الشارع مثلا، فإن ما سوف تشاهده لست أنت من صممه أو حدد له شكله ومضمونه. بمعنى أن الخارج هو من يفرض عليك نظرته وطرازه وواقعه وأجواءه. لذا، فإنه بسبب ذلك، قد يلجأ سكان البيت إلى الانغلاق على أنفسهم، وغلق تلك النوافذ الوسيعة أو اسدال الستائر عليها. وبذلك يرجع الحيز إلى أصله، وينفضح أمره، ويبرز أمام أعيننا منغلقا مظلما، أو مفتوحا على اللا شيء أو ربما، وذلك في أحسن الأحوال، على التلفزة والكمبيوتر وبرامجهما الاستهلاكية. خاصة وأن الإنسان المنفتح على التلفزة هو إنسان يشبه ذلك الواقف أمام نافذته ينظر إلى الشارع الذي لا يتحكم في شكله ومضمونه كما قلنا.

والتلفزة، كما لا يخفى، إنما أنشئت لتكون بابا على السوق، مثلما هي الإنترنيت اليوم. وبذلك يتحول البيت إلى جزء من السوق، ولا يهم حينئذ أن يكون منغلقا، بل يستحسن فيه ذلك. هذا بينما وجد البيت في البدء، ليس للانغلاق، ولا للتسوق، وإنما للسكن، من السكينة، والعودة إلى الطبيعة وإلى الذات من أجل تعهدها وتجديدها دوما.

 

©جميع الحقوق محفوظة للكاتب محسن الهذيلي

mohsenhedili2@gmail.com

©حقوق التصوير محفوظة للمصور نبيل الرواحي

nalrawahi@hotmail.com


تعليقات